- قمرٌ فوق دمشق
- قراءة في أعمال الأديب عبدالله خليفة
- قصص من دلمون
- كريستين هانا
- المكانُ في روايات عبد الله خليفة دراسة تحليليّة لنماذجَ مُختارة
- عبدالله خليفة: الرؤية الفكرية والفنية لأدبه
- قصـــــــصٌ قصـــــــــيرةٌ لـ عبـــــــدالله خلـــــــيفة
- كريستين هانا (Kristin Hannah)، الروائية الامريكية المعروفة، تكتب عن عبدالله خليفة
- الـسفـــــرـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
- الخــــــروج _ قصةٌ قصيرةٌ : لــ عبدالله خليفة
- المذبحة ــ قصةٌ قصيرةٌ : لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
قوة الكلمة
لا تأتي قوة الكلمة من شقشقة اللغة، والتلاعب بالألفاظ، وترفيع المؤدلجين الكذابين، وتغييب الكتاب الحقيقيين، بل من التعبير عن المعاناة العامة، وقضايا الوطن المتخثرة في الدهاليز والفساد وثقافة الكذب.
كلما امتلكت الكلمة سحر التعبير الشعبي، وصور البطولة اليومية ارتفعت في سماوات الأدب البشري الخالد.
الكلمة ليست حروفاً مجردة بل قوة تعبير سحرية عن مضمون شعبي مقاوم يتصدى للصدأ والغبار التاريخي ونشر الجهل، هي صور للبسطاء وهم يُدهسون في شوارع الحياة، وتصوير لأصابعهم وهي تتحرك ضد الحشرات.
ليس الكاتب الخائب، والصحفي المنعزل، ومروج الأكاذيب اليومية المليئة بالصواريخ الفضائية، بل الكاتب المدافع عن شعبه، المعبر عن تاريخه، عن قضاياه المضيعة في ثرثرات المثقفين، وورق الدجل اليومي.
هو من يصور في قصصه وقصائده ومقالاته ما يدور في الواقع، وليس من يصنع صوراً زائفة، ويتباهى باتصالات الوزارات، والمؤتمرات الفاشلة المقامة لسرقة الشعوب، يتباهى بالرسائل المصنوعة من الدوائر العامة الفاشلة، وإقامة علاقة رفيعة عليا مع الحرامية، بل هو الذي يعيش في زاوية العتمة وقلبه على الوطن، يُجلد ويُحبس ويتعطل ويُغيّب ولا تزال القضايا العامة تنبضُ في حروفه.
سجل كلماته أرشيف كاشف للبلد، للحارات، للمحرومين، لم يقل أنا طوال حياته ويعرض سفراته المدفوعة الأجر مسبقاً من فاشلين إدارياً، لو أُعطي تذكرة كشف أرقامها وكيفية صناعة الخداع فيها.
الصحف الفاشلة تموت، وسجل التمويه لو أستمر قروناً لا يصمد للزمن، والبلدان المقطوعة اللسان تتفجر وتتساقط حممها على الرؤوس، ويهرب كذابو الكلمات خارجاً حاملين الغنائم، وسجل الثورات الهائل يعري التحولات المذهلة حيث لم يبق طاووس مهما طال به الزمن، ولا يتعذب شعبٌ إلى الأبد.
الكلمة تتصحر بين أيدي المنافقين لا يجدون أنهم قادرون على الكلام، وببغاء واحدة أفضل صدقاً من مليون كاتب مزيف، لا يَسمع سوى السخرية من كلماته لأنه أصم وبلا معرفة تاريخية منفصم عن الواقع، يعيش في قصر من المرايا التي تعكس ذاته العظمى، ومن يملك ذرة من الصدق ينزوي ويحترم نفسه.
الكلمة نار الحقيقة إلى الأبد، ومن الكلمة نشأت الحضارات والرسالات، وظهرت الرموز والدساتير تشع للبشرية الخير والجمال، والمنافقون لديهم كافة مجلدات اللغة، وموسوعات العطاء المدفوعة، لكنهم غير قادرين على صنع كلمة واحدة مؤثرة تنزل في التربة الوطنية الشعبية التاريخية وتزهر.
الرهان على القلم
لم تفد الكتاب المراهنة على الحكومات والدينيين، فالكلُ يتاجر بالأوطان والأديان لمصلحة موقوتة، والكل يبيع والبعض مستفيد، والأغلبية خاسرة!
الكل يدعي ولا أثر على الأرض!
ليس للكتاب سوى أقلامهم تنمو قصة ورواية وشعراً ونقداً وثروة للوطن بلا مقابل أو بمقابل ضئيل وغير شفاف!
أعطوا الوطن لكل من يدعي ويبيع، وكل من يزحف على بطنه، ويقبل الأحذية، ويأكل التراب ويلعن الإنسان.
ليس لكم سوى هذا القلم مهما توهمتم التحليق في سماء مجردة، ومهما تباعدتم، وأختلفتم، ليس لكم سوى قطرات من حبر أو من دم.
راهنوا على القلم فهو وحده الباقي
تتحولون إلى عظام وذكريات متعددة التفاسير ولا يبقى سوى قلمكم يقول ما آمنتم به وما ناضلتم لكي يتكرس في الأرض.
ليس لكم سوى أوراق فلا يخلدكم ولدٌ ولا تلد، هذه الحروف التي عانيتم في إنتاجها وتعذبتم في إصدارها هي التي تشرفكم أمام الأجيال المقبلة التي لا تحد ولا تحصى.
فثقوا بالحروف وبالإنسانية المناضلة نحو زمن جديد هو زمنكم، الذي تصيرون فيه ملوكاً متوجين، وحكاماً غير مطلقين، ومربين كباراً للأجيال.
ماذا تفعلون الآن وكيف تمتشقون سلاح الكلمة وتوجهونه للحرامية والمفسدين وتعرون شركات الأستغلال وبنوك النهب العام، ترتفعون في سماء الوطن، وتخلدون في سجلات الأبرار.
القلم ليس له شريك سوى الحقيقة، وليس لطريقه واسطة أو سلطة محابية أو كهنة مطلقين، هو الحربة الموجهة للشر لا تعرف الحلول الوسط أو الشيكات الثمينة.
سلطة القلم سلطة عالمية، تتوحدون مع القلم الأسود والأبيض والأصفر، وكل ألوان الإنسانية المتوحدة في معركة واحدة ضد الحكومات المطلقة وبيع الإنسان كما لو أنه حذاء وضد هذا العداء بين الأمم والأديان والأعراق.
أنتم رموز الإنسانية فلا تنحدروا ولا تساوموا واكتبوا بسلطة الحقيقة وليس بسلطة المال.
توحدوا في هذه المعركة الكونية، وتضامنوا مع اشقائكم المظلومين والمضطهدين في كل قارات الأرض، وضد هذه القوى التي تدهس القصة والقصيدة ولا تحب سوى الإعلان، وأخبار القتل واليأس، ولا تبجل سوى البشاعة.
عبدالله خليفة
الملعون
1948 ــ 2014
1
حشدٌ بشري مضبب، الذي يراه والمترجرجُ في ذاكرته، هو جسمان لأمراتين جميلتين، والباقي من الحشد هو أصواتٌ وظلال، وتتقلبُ أمام ناظريه أكواخُ سعفٍ، ومستنقعات، والصبي الذي يُقادُ في هذا المهرجان متوترٌ بهذا الاهتمام به، وبهذا الموقع بين المرأتين، والسير نحو منطقة الأكواخ المخيفة يبعثُ على شعور بالرهبة والخوف..
كان يهمس:
ـ يا أمي لا أريد أن أذهب!
ـ خذ هذه الروبية!
كانت قطعة النقد هذه ثمينة . تضعها في يده عساها أن تجثم فوق مشاعره المتوترة وتغرقها.
المرأة الأخرى مضيئة، فاتنة، جاءت من بيت ثري، فراحت تبعثُ في نفسه الطمأنينة.
الموكب يتوغل في تجمع بيوت السعف الرثة، حيث أجسادٌ سوداء، ورجالٌ عزابٌ يسكنون الأكواخ.
الطفلُ الذي كنتـُهُ يدخل الكوخ المعتم، حيث رجلٌ يلبس ثوباً ويضع غترة، هذا الرجل الغامق السمرة، المتصل بالغيب والسحر، يرعشُ جسدي حتى الآن، هذا الرجل الذي رأيته مراراً ممسكاً بالأسياخ.. ستكون من وظائفه أن ينقلني من موتٍ إلى آخر.
ثمة ضباب وشخوص ذائبة في خيوطِ النورِ والظلمة، وملاكٌ مرعب لا ينزل بكبشٍ من السماء، بل يمسك سيخاً محمياً:
تقول أمي:
ـ حتى يعيش أخوتك لا بد أن تـُكوى!
يدرك الطفلُ مهمته الصعبة الغامضة، فثمة لعنة تصاحب وجوده منذ ظهر، فهو قد طلع من بطنِ أمه التعبة المريضة متيبساً، وتجمد مدة وسارعت نحوه أيدٍ، وبعد حين لا يعرفه خـُيل لهم إنه رحل، انتعشَّ وتحرك وصاح.
قالت الممرضات (لابد أن تسموه يحيى فهو يموت ويحيى).
ثم كبر الطفل وتبعته سيرُ الموتِ، أخوه الذي قبله والذي لم يره، كان يلاحقه، صار مسئولاً عن غيابه، فلولا اللعنة لعاش، إذن لا بد أن ينحني ويتقدم لهذه المهمة المخيفة، حتى يعيش أخوته. وجاءه السيخ بألم لم يبق في ذاكرته.
2
لم يبق في ذاكرته سوى هذا العريش الذي يطلُ على شارع.عيناه تحدقان من بين الجريد.
ويجثم في زاوية يلاعب حمامة، ريشها يتناثر من بين أصابعه. ملمسها رقيق. بيوت الحمام سترافقه دون أن يأبه بها.
سيرة الأقلام
كان بيتنا جزءً من طابور طويل من المنازل الصغيرة البسيطة المصطفة، على شكل قوس يقابلهُ قوسٌ آخر من البيوت.
الأبُ تدهورتْ مكانتهُ الاقتصادية وتنقل في مهن عديدة، لم يلائمهُ البحرُ، فعاش على البستنة، لكن لم تكن لها آثارٌ عميمة في حياتنا، وحياة المنزل، سوى شجرة طماطم كانت هي المظهر الوحيد من هذا الفلاح العامل، ومنديل يملأهُ ببذور، ومرة واحدة صحبني لمدينة عوالي، مدينة النفط، المرتفعة قليلاً فوق مسطح ترابي، ورأيته وهو يزرع ويسقي الزروع.
وكانت مكانته تتدهور حتى في هذه الشركة النفطية، التي استخدمته وإستخدمت غيره لتزيين منازل الموظفين الأوربيين، بالشجر والأزهار، فترك عوالي وجثم في بستانها في منطقة القضيبية وكنتُ أراه وهو يجمع السعف والجريد لإنشاء سور من هذه المواد خوفاً على بيت مدير الشركة من العيون.
الصبي الوحيد في البيت في ذلك الوقت من الخمسينيات وانحدارها نحو أوائل الستينيات، وقد ألزمني أبي بقوة كي ألزم المدرسة في نفس المنطقة، وأنا شبه غائب عن دروسها وعالمها المضبب الغريب، الذي لا أذكر منه سوى تلاميذ في حالات عجيبة قريبة من الهبل، ومدرسين قساة، حتى تحجرت في المقاعد الدراسية، وبدأت أتفوق بصورة غريبة، فقد استثارني مدرس تاريخ، كان يعلم بطريقة لطيفة واهتم بي، فعرفتُ إنني أنتمي لأمة وشعب.
الأقلام.. أتذكر الأقلام كانت ضرباتٌ على الأرض . لم أجد وسيلة لاحتجاج سوى ضرب تلك الأقلام بالبلاط، وتكسيرها ورش الحبر على الأرض، من أجل قطعة نقد لشراء مجلة!
يطالعني وجه (حاجيه) من وراء فرنه ويأخذ البيض المسروق من البيت ويعطيني قطعة النقد.
عاش هذا الرجل مع صاحبه حسن في إدارة هذا المخبز (الأفرنجي) المتواضع في الحي، وكان يعرف القراءة والكتاب، وكان شريكه لا يعرفهما، فسيطر على المخبز وأفتقر الآخر وانهار المخبز بعد ذلك.
كنت أراه وهو يشتغل على الحسابات كل يوم، لم أعرف إلا بعد سنوات طويلة مسألة التزوير!
خلال سنوات تالية لم تستثرني الأقلام، بل الورق، كان الجري وراء الورق المقرؤ ذي الكتابة والألوان والسحر يعصف بي. التهام السير ومجلات الأطفال وقصص الجرائم. أتذكر كيف كنت في بيت أختي بالخبر (السعودية) اتوارى عن الغداء. يبحثون عني ليجدوني داخل غرفة لا أعرف الآن كم كان الضوء فيها!
في بيت ابن عمي بالسعودية أجد إهرامات من الصحف ومجلات آخر ساعة، والحبر المصري الغاسل لليد، والمفجر للصراخ القومي، وشهيتي له محدودة قياساً للكتب وللقصص والإثارة فيها.
اتذكر إن أول ظهور للقلم بعد أن تصالحت معه وأحببته، وكان مرادفاً للعزلة، حيث ابتعدت عن شاطئ البحر، والعيون، ومعارك الفتيان في الحي. كانت هذه الرياضات والضربات في جو من الإثارة الصبيانية والمحدودية المليئة بالتفاهة. لم يكن أحدٌ يوجهني. لكنني لم أجدْ فيها راحة. العزلة مع الورق غدت محبوبة. المدرسة بجدارنها العالية، بانضباطها المروع، أشبه بسجن يفرُ منه الجسم نحو حديقة الورق. لكن المدرسة اعطتني مفاتيح المعرفة، قراءة الحروف والكلمات العربية. هذه الطلاسم السحرية والاكتشافات العلمية فاتحة الدروب ومشكلة العوالم والخلق ومفجرة التجارب الكيميائية التحولية.
معها صرتُ أجلس طويلاً على خزانة خشبية في الليوان واصارع الفرسان والجن وأخطف الأميرات وأذهب للأفلام الهندية في سينما أوال ونخرج قبيل الغروب ونحن نتحارب بجريد مسنون، ونلبسُ الأقنعة وندخلُ الدروب على خيول وهمية!
كانت أجنحة الفنون ترفرفُ بنا، وإذ قـُصت أجنحة صحبي، وانحشروا في معامل، وحملوا أدوات جثمت بهم على الأرض، فأنا رحت أحلق، أطير في أجواء غريبة ، اعانق كل يوم هذه الكائنات المجنحة، لكن لم أذب فيها. كانت قصص الأب عن الغوص والبحر عالماً آخر من الغرابة. هنا كانت الأرض بتضاريسها الغامضة تطلعُ؛ خليفة علي البوفلاسة جدي القادم من دبي بسفينته وبيته وصيده وبموته المفاجئ أثر سقوط صارٍ عليه، ووحدة أبي وأخته في بيتهما المشترك الصعب وهما وحيدان غريبان، وانطلاقه الصعب في الأعمال والحياة بأميته وبساطته، كانت قصصاً تكرس الخيال في حياة الإنسان.
تكسرت أقلام الحبر بيدي! تكسرت وأختي المفجوعة بي. ودموع أمي. لا تزال ملحها يرشرش على جسمي . صرت أقدس تلك الزجاجات الصغيرة القناديل، ويغدو حبرها المتناثر مثل دمي.
أكسر أقلامي إحتجاجاً لأحصل على قطعة نقدية لأشتري مجلة! واسرق البيض لأجل ذلك أيضاً!
النقلة الكبيرة حين بدأتُ أعي الأفكار الكبرى في العالم، من المدرسة الابتدائية حتى قراءة نظرية داروين وماركس والروايات الروسية الكبيرة!
عاملان أشعلا الجوع؛ صديق في المدرسة ووجود المكتبة العامة في المنطقة، وكنا نمشي إليها ونخافُ أن ندخل، ونلفتُ الأنظار بدخولنا، ونسمع أمين المكتبة يتكلم دوماً في غرفته، وأغلب الحضور من المدرسين العرب يقومون باستثمار أوقاتهم الضائعة في قراءة الجرائد والأحاديث. ويتعابنا مدير المكتبة خائفاً على ترتيب الكتب، وبدوت كمتطفل في هذا المكان المتواضع، الذي كان مهيباً وقتذاك.
جلب تلك المجلدات إلى البيت والقراءة المستمرة فيها، شعشعت الوعي بأشياء غريبة آخاذة. كانت القراءات الأولى لتيشكوف ودستويفسكي الأثيرين لدي حينذاك. ثم نجيب محفوظ.
في العلاقة مع المكتبة العامة والوحدة في البيت شبه الفارغ تخصص وتفرغ تشكلا بالصدفة. ثم جاءت الخلية الحزبية لتضيف إليها كتب كثيرة، حيث يتشري التنظيم مئات الكتب وتوزع، وتتسرب، وربما تضيع في بيوت، وربما تدور على الرفاق لتغذي أفكارهم، وكان التقرير نشاطاً ثقافياً، حيث تـُكتب الملاحظات عن الكتب. وتجري تنحية هنا لكتب الأدب الصافية، الإنسانية العامة، لصالح كتب الصراعات والنضالات. هذه والتجارب الاجتماعية تندغمان في الأكتشاف.
في المدرستين الأعدادية والثانوية تنامت عدتي الفكرية واهتماماتي الأدبية، الانغمار في النثر بحثاً وحكياً، التقيت بشخصية إبداعية غريبة في هذه الخلايا، حيث من الصعب ظهور مبدع فيها لأن أغلب أفرادها عمال، فوجدته يكتب روايات مطولة على دفاتر، بخط يد أنيق وجميل، وهي بلا أحداث ومليئة بالوصف المطول الطبيعي، وفيها دخان سجائره الذي يبثه على هذا الورق. بعدئذ ترك الرواية وكرس نفسه للبحث في الموسيقى وتأليف مقطوعات وسيمفونيات.
في عزف في الشوارع، في مجادلاته الأدبية، في رغبته الدائمة في (المعاياه) ثمة أسطورة إنسانية متوارية، فهذا الذي تأثر بعالم الزنوج والعبيد في المنطقة، وغار في الزيت وعمله وأدواته، نذر نفسه لهدف ثقافي كبير، وفي مأساة حياته، حيث سجن طويلاً، سجناً يساوي نصف حياته، لم يتخل عن حبه للموسيقى، لرقص العبيد الذين يهزون الأرض.
التنظيـم السياسي
أنا من مواليد سنة 1948، وكان مسقط رأسي في منطقة القضيبية لأسرة بسيطة، حيث كان والدي عاملاً في بابكو، وتعيش العائلة في الحي المعروف بفريق العمال.
عانت العائلة من وفيات الأطفال المتكررة، وترعرعتُ أنا وسط هذا الخوف من الموت والأمراض.
تعلمتُ في مدرسة القضيبية الابتدائية للبنين، بشكل سيئ في البداية بسبب عدم وجود توجيه عائلي، فالأب والأم أميان، وكنتُ أهرب من المدرسة في البداية، ثم بسبب إصرار والدي انتظمت ثم رحتُ أتفوق واتوجه لقراءة الكتب بسبب وجود أصدقاء في المدرسة.
وكانت أصداء الحركة الوطنية تصل إلى الحي والمدرسة بطبيعة الحال، حيث الصراع ضد الاستعمار على أشده في منتصف الخمسينيات. ثم في وسط الستينيات، كنا في مدرسة الحورة وقدنا في انتفاضة مارس 1965 جماعة شقت طريقها إلى مدرسة المنامة الثانوية للبنين وفتحنا الباب وتدفقت المجموعات الطلابية كالنهر الصاخب، وفي أثرنا اندفعت الخيولُ التي راحت تفرق ذلك النهر الواسع، والذي كان يعيد تنظيم صفوفه مرة أخرى ليتحول على مظاهرات هادرة.
في السنة التالية أي سنة 1966 توجهتُ إلى مدرسة المنامة الثانوية للبنين حيث تعرفتُ على مجموعة منتمية لجبهة التحرير الوطني، وكنا نناقش على مدى شهور المسائل الأولية للفكر الحديث، بسذاجة طبعاً في تلك الظروف وفي تلك المستويات. فرحتُ ألتهم الكتب، وقد عُرض عليّ الانضمام للجبهة في تلك السنة، فانخرطتُ فيها وفي خلايا تنتمي لمنطقة القضيبية ~ الحورة ~ رأس الرمان ~ الفاضل ~ العوضية.
من سنة 1966 وحتى سنة 1968، حيث وقعت اكبر ضربة أمنية لخلايا الجبهة، صعدتُ إلى اللجنة القيادية للجبهة وكنتُ طالباً في الثانوية ثم في معهد المعلمين الذي كان يُسمى عالياً! فكان علينا أن لا ندرس في الخارج ولا نسافر ونكرس أنفسنا للخلايا والكتابة والمنشورات ودعوة الناس الخ..
ومن جهتي كان لدي نشاطي الفكري والأدبي، حيث لم أكتف بكتب الأدبيات السياسية التي وجدتها مبسطة ولا تفي بالحاجة الفكرية العميقة، وكنتُ أكتب قصصاً في الصحافة بأسماء مستعارة أجرب فيها عملية الكتابة القصصية ومدى تقبل الناس لها! حتى فزت مرة بجائزة أسرة الأدباء للقصة القصيرة فكرست نفسي باسمي الحالي.
إضافة إلى ذلك كنتُ أكتب مقالات ودراسات سياسية واجتماعية، عن تاريخ البحرين أو عن تطور القصة القصيرة فيها، وكان هذا عنوان بحث قدمته في مؤتمر الأدباء العرب في الجزائر في بداية سنة 1975، وهي سنة حل البرلمان الوطني فكانت أول وآخر سفرة في عقد السبعينيات! وفي مؤتمر الجزائر رأيتُ شخصيات مثل الرئيس هواري بومدين وتعرفت على الشاعر محمد مهدي الجواهري والباحث حسين مروة!
ورغم الضربات المستمرة للجبهة حققنا تطوراً لها عبر تحولها إلى منظمة متسعة وذات منظمات (جماهيرية) كاتحاد الطلبة والشبيبة وكذلك تطور التثقيف وتحليل الواقع.
في تلك السنة كانت تجري عملية تصعيد مفتعلة للصراعات السياسية والاجتماعية كمبرر لحل البرلمان، وكنتُ ضحية لإحدى تلك الألاعيب، فقد نشر أحد الصحفيين تحقيقاً حول التعليم تطرقنا فيه إلى المشكلات العميقة داخله، وكانت الإدارة تتصيد عبارات لتفجرها، فأخذوا كلمة (التعليم تعليم استعماري) ليجعلوها قضيةً كبرى لا بد فيها من الاعتذار من أجل تفجير الاضطراب في الشارع تمهيداً لحل البرلمان، فلم نعتذر وفصلنا وطردنا من التعليم بعد المعهد وسنوات الدراسة فيه وسنوات التدريس!
في قيادة الجبهة كنا نرفض عمليات التصعيد وانفجارات النضال العفوي المزعومة غالباً، وكان البعض يعتقد أن التصعيد منا، حيث كانت الجبهة أكثر التنظيمات تأثيراً في الشارع، بسبب واقعية خطها السياسي وقتذاك ومرونتها تجاه كافة أشكال النضال.
ثم حدث حل البرلمان واعتقلنا فحدثت المآسي الشخصية التي تعرفها.. كان السجن مطولاً هذه المرة خلافاً للمرات السابقة الخاطفة السريعة. فكان خبرة وإنتاجاً أدبياً وفكرياً. وحين خرجت كان لدي مجموعة من الكتب وأفكار بشأن دراسة التراث، حيث واتتنا الفرصة في السنة الأخيرة لقراءة مجلدات المفصل في تاريخ العرب لجواد علي والنزعات المادية لحسين مروة وغيرها من المراجع.
ابتعدت بعد السجن عن العمل السياسي التنظيمي لكنني كنتُ أدرس التجربة الفكرية والسياسية من أجل مراجعتها وتطويرها.
كانت مشكلات التنظيمات السياسية من الداخل حيث تتسلل عناصر مشبوهة وانتهازية، وهي التي تقوم بهدم منظم للعمل السياسي النضالي عبر خطط مدروسة.
ولهذا فإن التنظيمات بحاجة إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي كي تتفتح وتغدو منتجة وهذا مستحيل في ظل تركز في السلطة.
ذكرياتٌ سياسية
كانت سنوات أوائل الستينيات (1965، 1966، 1967) سنوات زاخرة مصيرية، بحرينياً وعربياً، ففي البحرين كانت تتجمع مجموعة من العواصف الاجتماعية الزاخرة، وثمة عقدٌ من السنين كان فاشلاً في التنمية والحرية والتقدم، وثمة شركة وإدارة وحالة بلعت فوائضَ كثيرة دون أي تحول عميق عادل لمجتمع يخرجُ من بيوت السعف والأكواخ إلى بيوت صغيرة مليئة بالأسر وفي مدارس رثة وأوضاع مادية بائسة.
كان تجمع حشود الطلبة والشباب في مدرسة الحورة الإعدادية للخروج إلى الشارع يمثل حالة ساخنة مكبوتة من سنين ورغبة عارمة للشباب في الظهور على سطح الحياة، وما لبثوا أن خرجوا إلى بؤرة المنامة وهي مدرسة الثانوية للبنين حيث انفجر الوضع!
خرج آلافُ الطلبة إلى الساحة وفضاء البلد ككل، وبعد هذه اللحظة خرج الشعبُ كطيور في سماء المدن!
هي سنواتٌ من الزخم الغريب حيث تجمعت وعودُ الاشتراكية في روسيا ومصر والعراق وغيرها لتغيير حياة العاملين وهطلت أمطارُ الشعارات، وهي سنواتُ الهزيمة والفشل وما زال الطائر يحلق في سماء الحلم وهو جريح!
الذي بقي من زخم الشباب هو ترجمة ذلك لمنظمات وخلايا وبحث وقراءة. تكسرت الأرجل في الشوارع لكن تغلغل الشباب في خلايا المنظمات المتكاثرة بعد المطر.
وجدتُ نفسي في ساحة مدرسة الثانوية وصفوفها أتعلم السياسة وأنخرطُ في خلية. بضعة شباب قلة من الريف تقرأ وتعيرُ الكتبَ لنا. نحن أولاد الفقراء كنا عاجزين عن شرائها. والكتب هي بؤر التحول، فمن كتب دارون المبسطة بقلم سلامة موسى إلى أمهات كتب الماركسية بعد سنوات قليلة.
كلمات مثل الجدل كانت تنفجر كمصطلحات هامة، وكان هذا يشير لزخم التيارات التحديثية الوطنية المتصدرة المشهد والمتغلغلة في صفوف الطلبة خاصة.
تلك السنة سحبت الشباب من التأمل وصراعات الأحياء البائسة وعوالم الفقراء المغلقة إلى زخم السياسة العربية العالمية، وبدأنا في القراءة والتنظيم ونشر المعرفة وتجنيد الآخرين!
ماذا تعني كلمة (خلية)؟
هي انتقالٌ من حالةِ الفوضى الفكرية والاجتماعية لحالةِ التنظيم والدرس والتطور السياسي العميق. فلا تعد الكتب حرة، وتغدو العلاقات منظمة، ويحدث الدرس لنظرية ما، وهي في حالتي نظرية الماركسية، والخلية تقوم هنا ببحث شعيرات هذه النظرية على مدى سنوات وتطبيقها!
تبدأ من الحالة السياسية، حالة الحياة والوطن والشعب، إلى حالات التيار وصراع العالم وظهور قوى المعسكر الاشتراكي وتغييره لعالم الاستغلال والفقر وتصعيد ثورات التحرر الوطني وتحقيق الاستقلال.
تستطيع الخلية بعد سنوات من تراكمية الوعي أن تضع أقدامها على شرائط من التراب الاجتماعي، ويظهر أعضاءٌ آخرون وتتصاعد الرؤى وتتصادم ويختفي أناسٌ من الخلية ويظهر أعضاءٌ جدد ويحدث توالد وتصدع ويتوسع التجنيد وانفجارات الشباب الصغيرة تغدو بحراً من البشر بعد سنوات.
ولدت سنوات الستينيات زخماً نضالياً شعبياً وحالات تطور فكرية وثقافية واسعة في صفوف الشباب خاصة. فظهرت الصحف ومثلت زخماً وتطوراً في السياسة والثقافة، فكان المدى الغامض للخمسينيات قد صار وضوحاً سياسياً، فظهرت التنظيمات النوعية، وتحددت الأنواع الفنية والأدبية، وظهر نتاجٌ فكري راح يبحث عن تطور البلد والشعب المميزين.
كان (انفجار) هذا كله هو وليد زخم الخمسينيات وتجارب السابقين وعطائهم فظهر جيلٌ زاخر ذو عطاء تمثلت أعماله في جوانب عدة، ويعتمد ذلك على عطاء الأفراد ودورهم ولم تؤد الهزائم إلا إلى مزيداً من البحث والحفر والمعرفة والتصلب.
وهكذا تبدأ القصة القصيرة في الظهور والقصيدة وقطعة النقد الأدبية والفكرية. فالجريدة أتاحت لهذه الأجناس الأدبية في الظهور، وكانت أشكال من البراعم المتحولة التي لا تنفصل عن (الخلية).
كانت الخلية هي المنتج وهذا هو عسلها، فلم تنفصل القصة القصيرة عن المقالة النقدية السياسية الثائرة، وعن القصيدة المحلقة بالدعوة الثورية وبآلام العاملين في البحر.
هكذا كان الوعي الشبابي الطفولي الزاخر لمرحلة الستينيات يدفع شبابه التلاميذ من ساحة الثانوية إلى الثقافة الحديثة وإلى العالم المعاصر المعقد فيما بعد.
إذا كانت سنواتُ بدايات الستينيات هي صانعة عقدين من التطور السياسي البحريني العربي، فإن مضمون الخلية السياسية أثر على هذين العقدين تأثيراً مهماً. وهو وعي التخطيط التحديثي، وعدم ترك المجرى العفوي للتطور يأخذ الحياة إلى مرئياته التاريخية الماضوية.
لكن بعض المنظمين والسياسيين لا يدع هذا المجرى المنظم يقود، وتسبب عفويتهم الكثير من المشكلات لهم وللتطور السياسي معاً.
أحياءُ القضيبية ورأس الرمان والحورة والمخارقة والحمام هي الأحياء الشعبية التي تنفست واستوعبت الحداثةَ الوطنية في عمقها الشعبي، فهنا الشباب استوعب زخم الحركة الوطنية السابقة من دون أن يعود إلى أشكالها التنظيمية من شكلها عبر حركة الهيئة وهو الشكلُ الفضفاض الجماهيري، ثم جاء الشكل الفضفاض القومي وهو كذلك لم يكن مناسباً، فجاءت (الخلية) السرية الجماهيرية، القليلة الأعضاء، المستوعبة للفكر النظري السياسي العملي.
لكن شباب هذه المنطقة لم يستوعبوا كلية وبدقة المجرى السياسي السابق وظل بعضهم متشبثاً بأشكاله ولم يرتفع للمستوى الفكري المطلوب لذلك، لهذا نشب صراعٌ شخصي وتنظيمي، قومي وشيوعي وبعثي حتى غاص ذلك في التطور الطبيعي للمكان والزمان.
من هنا، وبعد عقدٍ من الزمان قامت هذه المنطقة من شرق المنامة بدور العاصمة السياسية حكومياً، حيث تمركزت فيها المؤسساتُ السياسية السابقة من عهد الاستعمار حتى الاستقلال، لكن لم تكن فيها مؤسسات سياسية شعبية حتى راحت تلك الخلايا السرية، والمجموعات الباحثة في العمل الوطني، تطل بروؤسها وتعبر بالأوراق والرؤى والتجمعات عن نفسها، ولهذا ليس مستغرباً أن تجمع نفس المنطقة بعد عقود الحكومة والبرلمان، البلديات المنتخبة ومشروعات الأحزاب وغيرها.
تجمع الأحياء الشعبية في شرق العاصمة لم يؤدِ بشكل عفوي للوعي المنظم الحديث لولا الأداة العصرية الكثيفة التعبير عن التراكم السياسي التاريخي المنوع.
وقد ضمت عناصر من (القوميات) و(الطوائف) بشكلها الرمزي، فهذه العناصر المختلفة مذهبياً وفكرياً وسياسياً اندمجت في تعبير سياسي نهضوي وطني موحد اجتماعياً فهو بحريني الانتماء، ولكن منقسم اجتماعياً إلى تجار وعمال ومثقفين ذوي آراء تحديثية، يختلفون في متاجرهم ومصانعهم، ولكن يتفقون في الهوى الديمقراطي.
وقد عبرت منطقةُ شرق المنامة عن انقسامها السياسي بين شارع وشارع الحكومة، بين رؤى تتجه الى الاستقلال والنقابات والديمقراطية، ورؤى تتجه الى الاستقلال والتطور المجرد.
وبهذا بدأت البحرين ككل وضعها السياسي الحديث.
هو البيت الذي أحبه!
لم يَعُدْ لنا بيت. جاءَ الغرباءُ وأخذوه.
كان بستاننا هنا، وبحرنا الذي نسبحُ فيه، وشاطئنا الذي نصطاد عليه.
لم يعدْ لنا شاطئ ولا سمك، والقوارب تكسرتْ على القوارب.
نتذكرُ بأسى كيف كنا، عائلة واحدة، فريقاً ملتحماً يصطاد معاً، يتبادل صحونَ الأرز في الأزمات، نتسلف من بعضنا، نأخذ المياه من عين واحدة.
لم يعدْ لك حيك، صار أشبه بجهنم الدولارات والصفقات والسلع والغرف التي تـُؤجر في كل لحظة وتخلى في اللحظة التالية، وهو حي البضائع السرية المهربة، تخرجُ من غرفتك في الفندق أو غرفتك في الدواعيس الرثة لتجد أن مدينتك خطفوها، أين ذهبت عاصمتي ومدينتي وأمي؟
لغات بعدد سكان الأرض، رثاث من الخلق وسوق فوضوية، وكراجات تضرب جدران رأسك الذي تحول إلى جمجمة، وكان الأب يعدُ ابناءه بمستقبل شفاف سعيد، ويقول لهم ستكون هذه الأرض لكم، وكبرنا ووجدنا الأرض تـُسحب منا، ونحن سلع في المزادات، وأدوات حديدية صدئة في مشاغل رثة.
بيتنا سُرق منا، ولم نعدْ نعرفُ جيرانـَنا، وذهبَ رجلٌ (مناضل) لحيهِ القديم يجمعُ الأصوات للانتخابات، وطرقَ بابَ بيت رفيقه الذي عاش سنوات الطفولة والصبا معه، وعلمهُ بعضَ الكلمات، طرقَ الباب ليسأل عن رفيق يعاونه في الوصول لكرسي الهيلمان، فوجد أن الصديق مات منذ سنين، بعد أن امتلأ بأمراض غريبة.
خرج أولادُ الصديق غاضبين!
حارتنا سُرقت، أولاً سرقوا النادي منا، ذلك النادي الذي كانوا يقيمون عليه المسرحيات الفكاهية الجاذبة للناس، وكان مثل التلفزيون الوطني يبث الحكم والقصص، فيتداول الرجال والنساء قضايا الحداثة ومشاكل الواقع، وكانت جرائده الحائطية مكتوبة بعشرات الإيدي، وبعدها يصيرُ الصغار رسامين وكتاب قصة وحالمين بالأمل الأخضر.
بعد أن خطفوا النادي خطفوا صدورَ المراهقين التي امتلأت بالدخان فراحوا يسبحون في بحر الإبر والعروق المفتوحة على الجروح والسموم، يغرزون في سواعدهم الرقيقة الأنصال، ليشبع تجار لا يشبعون، ويعودُ المناضلُ ليسأل: أين ذهب شاكر؟ أين ذهب سالم؟ أين ذهب عمار؟ أين.. أين!؟
فيقولون له يعطيك طول العمر، رحلوا وتركوا الدنيا الفانية!
فيصرخ كلهم كانوا شباباً!
يجيبُ من بقى على قيد الحياة ولم تزلْ في لسانهِ مضغة شجاعة: هل رأيتَ كيف جاعوا، وبحثوا عن العمل ولم يجدوه، وتسكعوا طويلاً، وجلسوا يثرثرون أزماناً، فأصطادتهم شبكاتُ الهوى والنوى؟
حين يعود المناضلون ليجمعوا الأصوات لا يعرفون أزقتهم، أزقتهم التي خطفها الدرزي والحلاق وتاجرُ الإبر والملا وتاجر العقارات وتاجر النعوش والأضرحة.
بعد أن خطفوا النادي وعقولَ العصافير الصغيرة خطفوا المصائدَ والقواربَ وتراب البحر النقي، والقواقع، وحكايات الربابنة والبحارة، والمرفأ الصغير الذي كان متحفاً للطائرات التي سقطت بين الحورة والقضيبية، والدولايب الملأى باللوز والبراحات الملأى بالحكايات وعشاق الليل والأقمار.
خذ الآن ما شئتَ من قمامةٍ ومن شعراء بلا ألسنة نسوا الصراخ والكلام، ومن أبطالٍ مُرممين بقش، ومن متهالكين على الكراسي/ المآسي.
خذ الآن ما شئتْ من براميل مليئةٍ بالبقايا والهدايا والشيكات، والذكريات المحروقة ولكن لن تجد الكهول الذين حفظوا أشعار الأولين، والفرق الشعبية الصاهلة بغناء الوطن والنسوة الحرفيات اللواتي كن يصنعن الأكلات والحلوى، ويبعن في الطرق دون أن يتعرضن للحبس والأحجار.
لن تجدَ امرأتك فقد تيبست من الولادات وتربية الأطفال وتسليم ضلوعهم لتجار الممنوعات.
لن تجدَ المجالسَ المليئة بالحكمة والسوق المليئة بالأسماك الطازجة القادمة من السواحل، ومن المصائد الجالسة على مرمى حجر.
لن تجدَ أهلكَ الذين تواروا من التلوث والمطابخ والأسعار العالية والطوفان الأجنبي، وهجمت عليهم الأدخنة والغازات والسراطانات والدماءُ البيضاء.
بعد أن خطفوا النادي والصغار والساحرات الطائرة في السماوات والأحلام خطفوا العقولَ التي كانت واعدة بالطيران نحو المريخ واكتشاف العلاجات للأمراض الاجتماعية والجلدية والروحية.
صار الشباب ممغنطين موجهين للآخرة، أو للقبور، مسحورين أو شبه مسحورين، يكتبون الجوامع والتمائم، ويهذون ويحلون المعادلات الخرافية للقرن الثاني الهجري، أو يتخدرون طوال اليوم بأعشاب.
لم يعد لي بيت، خطفوا بيتي.
استولى الأغرابُ على بيتي، فلجأت لمدينتي فوجدتهم خطفوا مدينتي، فذهبتُ إلى أصدقائي فوجدتهم خطفوا أصدقائي.
كلُ حجر فيه كان من معاشي وكلماتي، وكلُ قطعة فيها سُقيت بدمائي، لكن الأرضَ هربتْ من يدي، وراحتْ تبحرُ خارج خليجي، كلُ يومٍ تمشي بوصة جديدة وتسحبُ أولادي، وصراخي يتعالى: أعيدوا لي وطني!
كانت سنوات الثمانينيات ناضبة، ملأى بالخوف والحذر.
حين خرجتُ من السجن في نهاية عام 1980 كانت الحياة الاقتصادية تواصل انطلاقتها العنيفة، فيما يشبه السيل أو الفوضى.
فلم تكن طرق القضيبية كما كانت سابقاً، كان الشاطئ القريب من جبرة السوق قد رحل بعيداً. ودفنت المنطقة وكدتُ أضيع وأنا أبحث عن البيت.
المكان يشير إلى اندفاع حكومي وخاص للاستيلاء على البيئة البكر، وأمتلأ الحي بالدكاكين، وانتشر العمال الأجانب، لكن ليس بمثل الكثافة الرهيبة الحالية.
هذا الجو يكرس الغربة، خاصةً مع غياب الأصدقاء، ففي بيوت معينة قريبة كان ثمة أصدقاء لكنهم ذهبوا لبيوت جديدة، ومقاهي ودكاكين الداما اختفت.
عدت إلى غرفتي القديمة، زجاج النافذة مكسور، والبناء القديم مستمر.
بدأ يظهر لي الملتحون، قال لي أحدهم بحدة وهو يهنئني بالحرية (أنس الماضي والأفكار القديمة). عائلته التحقت بأجهزة الحرس والشرطة، وانتعشت أحوالها، وخلقوا مجموعة من العيال المهتمين بالصلاة.
يتوافق مع هذا الاغتراب الديني اغتراب ثقافي وكأن الجانبين أو الاغترابين جزءٌ من منظومة فكرية متداخلة، رغم إن الاغتراب الثقافي حداثي، وعلماني، أي يرفض التعامل بالمفردات الدينية.
وهذا أشبه بالعدمية الدينية، حيث يُبعد الدين عن مجال التعامل، ولا يكشف ويحلل. والتعاملُ المحافظ هو كذلك إغتراب للدين، لأنه مجرد تظاهر براني به.
إن الاغتراب الثقافي لم يكن قد انقطعت صلاته بالمقاومة الاجتماعية التي كانت ساخنة في زمن السبعينيات، ومن هنا كان نتاج السجن الأدبي حافلاً بالانجازات الإبداعية، حيث وصلت القصيدة ربما إلى مستوى لم تقاربه مرة أخرى. لكن كانت القصة بحاجة إلى معالجة الواقع الجديد، وبهذا كانت خطى هذين النوعين الأدبيين مختلفة.
مسائل الثقافة هذه كانت أساسية، لأنها كانت التعبير الأكثر انتشاراً وقدرة على العلن، أي على النشر في الصحف والمجلات، في حين إن الكتابات السياسية غير ممكنة، وحتى لو ظهر هذا الخطاب السياسي، كما سيظهرُ في سنوات الثمانينيات نفسها، فإنه سيظهر موجهاً للقضايا الخارجية، أو للمشكلات الاجتماعية الطافحة المحدودة.
لهذا عملت على طباعة كتاباتي المنتجة في السجن عبر آلة كاتبة جديدة أشتريتها.
كانت آلة الطباعة القديمة قد تركتها بيد زميل لكنه قذفها في البحر(قال لي رجلٌ من منطقة الصديق بعد ذلك، بأنه هو الذي أغرقها بعد أن أبحر بقاربه وألقاها في منطقة كان البحر فيها غزيراً، ثم جاء فوقها الدفان!).
إن طباعة تلك القصص والروايات ثم البحث عن عمل ورؤية الأصدقاء كل ذلك كان متداخلاً في تلك الفترة.
وإذ كنتُ أستل تلك الأوراق الصغيرة من معاجين الأسنان حيث غرقت بسوائلها، أشعر بقربي بكلمات اليأس والخيبة.
يوميات صيف يونيو
اتصال من …
خولة مطر ت …
اعتذاران عن لقاء يوم 30 مايو، مرة لقاء في جريدة ، مرة لحضور جلسة محكمة..
فكرة رواية الربان تتصاعد: الربان يعيش في جزيرة صغيرة يأخذ الركاب في عملية موت، ظل لفتى مسيطر على الركاب، رواية ذات نسق أسطوري ~ واقعي
أعمدة: مقتول ضائع الملامح
ـ الأرهاب والطائفية
ـ الاكتمال الإسلامي
تساؤلات عن كلمات: بذنيك الزنديقان ص 113 من رواية عثمان ~ جوارب أم جوارباً ص 117.
شهر يونيو
3 ـ اتصال من (…) فتاة جامعية انتجت كتاباً عن القصة العربية الكلاسيكية، تحدثنا حول نتائج مسابقة وزارة الإعلام القصصية وافقنا على اسماء الفائزين.
أعطيتُ خولة مطر نسخة من رواية عثمان بن عفان، كلمت صاحب دار (هاني الريس) الذي قال لها متحمساً أسرعي بها!
تحدثت خولة عن علاقتها بجريدة الوقت، ورئيس تحريرها إبراهيم بشمي المحروقة منه، والذي أبعدها عملياً عن رئاسة التحرير، ولم يدفع لها شيئاً حتى تاريخه! تذكرنا بعض الذكريات عن أبي خليل الصوفي!
4 ـ يونيو 2007 قرار المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية إجازة رواية عمر بن الخطاب شهيداً بعد رفض طويل لوزارة الإعلام ؛ شهران ونصف..
استعارة كتاب (رسمت خطاً في الرمال) لهاني الراهب طبعة سنة 1999 يتحدث فيه بشكل منولوجي كثيف واوسع وعبر تداخل العصور، والراوي المهمين على كل شيء هو بؤرة العمل.
أمينة مكتبة شباب رأس رمان فتاة صغيرة متخرجة وتبحث عن عمل وعملها الحالي كأمينة مكتبة بقيمة 50 دينار فقط اسمها زينب. كتبت عموداً عن كتاب خولة مطر، حرب لبنان بعد قراءته.
انهيت مقابلات عبر البريد الإلكتروني حول أدب السجون لجريدة الوطن، وحول أزمة كتابي عمر ورأس الحسين لجريدة العهد (تعثرا في النشر، ملاحظات لاحقة).
أفكار أعمدة: العمال والإقطاع، وعي المغامرة ووعي العقلانية.
عشرة يونيو: أفكار جديدة تتعلق بتفسير القرآن: تداخل الإلهي والبشري، البشري هو الذي يعبر ويجسد تاريخه ومفرداته من خلال المظلة الإلهية العامة، الإله يترك الإنسان ~ النبي يعبر حسب ظروفه وإمكانياته عن نفسه، داخل المنظور الإلهي كذلك! كيف؟ ذلك هو التفسير الجدلي التاريخي للقرآن.
تضاد الاقتصاد والمرافق عمود محلي
متبجحون مذهبيون عن التعبير الكلي المطلق، دكتاتوريات صغيرة محدودة وأمية فكرياً.
10ـ يونيو فما بعد استمرار فكرة التفسير القويم…
عودة لرواية علي بن أبي طالب، عدم الاعتماد على المراجع، بل الخيال والرؤية الحرة..
هشاشة النيسج الفكري سيطرة التقليديين المسيطرين على الثروة تجعل التيارات الحديثة غير فاعلة، اهمية اختراق النسيج الفكري.
مقابلتان لا يعرف أصحبها كيفية توصيل البريد الإلكتروني، مقابلة أدب السجون، مقابلة حديث عن الروايتين.
23 ـ يونيو
تسيطر علي فكرة رواية عن البحرين والخليج في العصر الوسيط باسم (الحرية أو الموت) عن الشيخ مقرن، قرأت فصولاً كثيرة من كتاب (أفونسو دلبوكيرك) وهو من إصدارات المجمع الثقافي في أبوظبي مكون جزئين كبيرين، وهو سجلٌ كامل عن رئيس القباطنة البرتغاليين وحاكم الهند، فيه اسهاب عن أعماله الأجرامية في المنطقة ومجازره. ولا وتوجد معلومات وافيه عن الشيخ مقرن الذي اسستشهد في الدفاع عن البلد..
جرت في أسرة الأدباء والكتاب ندوة حول روايتي (عمر) و (رأس الحسين)، قدمت ورقتان تعريفيتان من قبل كريم رضي، وزكريا رضي، وكتبت تعليقاً حول ذلك باسم قضايا الرواية التاريخية..
23 ـ يونيو وافق رياض الريس على طبع رواية (عثمان بن عفان شهيداً) سوف تصدر في شهر ديسمبر، على الأساس الارتباط بالمعارض، تخصيص نسبة من الدخل..
مع الانتهاء الكلي من رواية (ثمن الروح) تفكير في نشرها، رواية (التماثيل) نشرت في أخبار الخليج على حلقات في شهري مارس ~ مايو 2007.
ارسلت وكالة الصحافة العربية من مصر مسودات أربع كتب في أواخر شهر يونيو 2007، هي ثلاثة أجزاء من (الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية)، وقد سبق تصحيح الجزء الأول قبل شهور، حيث لم يطبع الجزء الرابع في طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
مع هذه الأجزاء هناك باسم (تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية).
لم ترسل خولة مطر أي نسخ من عمر.. قضية الرواية معلقة حتى الآن.
تجربتي في القصة القصيرة*
في هذه المداخلة سأعرض عليكم الخطوط الأساسية لتشكل القصة القصيرة لدي من خلال وقائع التجربة الحياتية والفنية وتبدلاتها.
اسمحوا لي، بأن تكون الورقة تتوجه لقراءة خيوط التجربة وتعقدها واختلافاتها، عبر محطات أساسية، ورغم إن هذه الطريقة تقترب من النقد الذاتي، إلا أنني سأعرض التجربة بموضوعية، مكتشفاً عملي عبر التحليل الداخلي والخارجي.
1
كيف تكونت القصة القصيرة لدي؟ لماذا لم تنفصل عن صرخاتي السياسية والاجتماعية؟ لماذا وجدت نفسي كاتباً للقصة القصيرة وللاحتجاج الوطني والاجتماعي معاً؟ لماذا غدت شخوصي مستقاة من المشاهدات والحكايات المروية والمواقف الحقيقية والرموز العربية ومن التجربة الحياتية بكل عفويتها في البدء؟
لا أعرف لماذا وأنا طفل توجهت لقراءة سيرة عنترة بن شداد، فلماذا هذه الشخصية هي التي ظللت طفولتي، فرحت أقرأها واشاهدها على شاشة السينما القريبة من حينا؟
هل مخاض التحدي المحيط، والحي الفقير المهموم بالحرائق والاستغلال، هو الذي يخلق جواً من البحث عن البطولة، واستبصار طرق الكفاح؟
هل يلعب مخاض الشعب البسيط المستعبد الباحث عن حريته من الأسياد الخارجيين والداخليين، دوره في خلق مناخ جاذب للفتيان، ومحرضاً لهم على الالتحاق به، والإضافة فيه؟
هل يغدو واقع الأمة المفتتة التابعة، والتي تستعيد نهوضها وتفكك شبكة تبعيتها وإرثها، روحاً هائمة قوية فوق نفوس شبابها؟
لا شك أن مناخ الخمسينيات الذي تشكلت طفولتنا فيه، والممتلئ بضجيج الإذاعات، وخبز المنشورات الساخن، والمعبأ بالمظاهرات، كان له دوره في الذهاب إلى رموز البطولة القصصية، سواءً كانت عنترة أم السندباد أم أولئك الأطفال اليتامى الذين يتلقون المساعدات من القوى السحرية.
لقد كان نمونا الدراسي والثقافي هو صراع ضد تركات المجتمع التقليدي، في عقد تخلص النخب الثقافية ~ السياسية من الأفكار العتيقة في الثقافة والسياسة، عقد تجاوز الأقصوصة الميلودرامية والإنشائية، والتلاحم مع مستويات الواقع، والتاريخ، عقد تجاوز أفق [الطبقة المتوسطة] على مستوى الممارسات الفكرية والإبداعية.
لا شك أن صعود ثقافة الشعب البسيط كان محصلة لتغير عالمي غامر، كان يدفق أدبياته ورموزه وخلاياه في الأحياء المأزومة.
من هنا كانت أقصوصة رصد الواقع الفاقع، والتقاط ما هو طافح وبارز، وكشف مثالب [الأشرار] هي تعبير عن هذا المناخ الشعاري، أما البُنى الفنية السائدة فهي تعتمد على: التصوير الفوتوغرافي لنماذج بائسة، أو خلق بنية أولية لكشف التضادات الاجتماعية الحادة، واعتماد على اللمحات الخاطفة وعلى الرموز الأكثر حضوراً وديناميكية في الوعي العام كالنماذج الأسطورية والدينية..
هنا تقترب الأقصوصة من وعي الخلية الشعبية، وتغدو على تماس فعال وساخن مع قارئ المرحلة المشحون، وتكون جزءً من المادة التحريضية، وذات صلة بالمقالة، رغم إنها بدأت تشكل بنيتها الأولية المستقلة عن ظاهرات الفن والوعي الأخرى.
هكذا كانت ممارستي القصصية تأخذ من هذه الوشائج عبر سنوات 66 ~ 75، التي صنعت المجموعة القصصية الأولى «لحن الشتاء».
تلعب البُنى المشهدية دوراً أساسياً في تشكيل الموقف القصصي في كل المجموعة، فالحدث يبدأ من أول كلمة، وتنبثق معه الشخوص الأجواء، التي ترتبط به ارتباطاً مباشراً عنيفاً.
في قصة «الغرباء»، أول قصة في المجموعة، نقرأ:
(صحوتُ من نومي على أثر رفسات في بطني. شاهدتُ ثلاثة أشخاص في المنزل. رجلان وامرأة. الرجل الكبير السن ضخم، متين البنية. راح يتكلم لغة أجهلها تماماً. اعتقدت في بادئ الأمر انه مجرد حلم. فما اكثر الأحلام التي أرى.
جرني الرجلان من السرير!)، ص 5.
في الصراع بين الراوي والغرباء نكتشف بوضوح الدلالة، فهي تجثم مع الحدث والشخصيات، مما يعطيها بعداً واحداً.
في البنية الفنية المشدودة بقوة وانعكاس إلى الواقع، هناك أيضاً الومضات الحكائية والرموز التراثية، غير المبتعدة عن فخ الصراع السياسي.
2
في الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1975، مع حل البرلمان في البحرين، حدث لي ما حدث لبطل قصة «الغرباء» من اقتلاع وخطف وحرق كتب..
في فترة الاعتقال هذه لا تسمع عن الناس من خلال الكتب، بل تقرأهم من خلال جلودهم المباشرة، وعبر الأنصال المحفورة في أجسادهم، والأخاديد التي تتكون في أرواحهم، وتغدو مسألة البطولة معرضة لامتحان عسير.
لكن القراءة القصصية للبطولة تتم هنا في أجواء محمومة، وجماعية، ومضطربة، بحيث لا تستطيع الكتابة أن تنضج، وأظل على مدى سنة من التجريب العشوائي حائراً، وتبدو أدوات الكتابة من قراطيس السجائر وأوراق علب الصابون المجففة، مثل المادة نفسها عرضة للحرق والإخفاء والإلغاء، والقليل الباقي سوف يستقر في قلب معاجين الحلاقة!
يمثل السجن مطرقة كبيرة لأدب الهتاف، فهو يعتمد على نشيد بطولي لم يمتحن. أما هنا فالمناضلون الذين يتحدون بمهربي المخدرات وبالمخبرين واللصوص، ويتعاونون معهم ضد رفاقهم، والمناضلون الذين هم مشغولون بفكرة السيطرة، أو الخوف، أو الانهيار، وأيضاً تلك القلة التي تجمع في أرواحها المعرفة والجراح والصمود، إن كل هؤلاء يدفعون الكتابة إلى ضوء جديد.
فأما أن ينهار حلمه، مع تلقيه أخبار انهيار أسرته ولقراءته لكشوف الاعترافات وتقارير المحاكم الاستثنائية، أو أن يبحث عن أسس مختلفة قوية للفكرة.
وبطبيعة الحال، كان هذا يحتاج إلى سنوات من تجميع مواد الظلمة والضوء.
وفي السجن لا تستطيع أن تقرأ شيئاً من الأدب الجديد أو القديم، ولهذا مرت عليّ سنة كاملة في جزيرة السجن المسماة [جدة] دون إنتاج هام سوى قصة قصيرة واحدة هي «المغني والأميرة» أثارت الانتباه حين نشرها في الخارج، وأثارت إدارة السجن ضدي فحصلت على وجبة ساخنة في زنزانة انفرادية.
هذه القصة سقطت في أعماقي، وكان النحت اللغوي ~ التصويري فيها يرتكز على استغلال ثيمة حكاية تراثية، وشحن التعبير الغنائي بشعرية صادحة.
والآن يبدو لي، بعد استرجاع التجربة، إن ثيمة التراث التي تدفقت في قصص أخرى عديدة، كانت إحدى الروافع لأبعاد القصة القصيرة عن البعد الواحد، والدلالات القريبة.
لكن تدفق القصص الجديدة لم يتم في جزيرة السجن الساحرة ذات المناخ الرومانسي، حيث الصخور العملاقة والبساتين وامتداد الفضاء اللامحدود، وهدايا البحر الوفيرة، بل حدث في السجن العسكري التدريبي [سافرة]، حيث الزنازين غرف قديمة مهترئة، أو صناديق خشبية ضيقة لا تتسع حتى لشخصين عاشقين ! وحيث التدريبات العسكرية الصباحية لفرقة الشغب هي نباح مرعب، والموسيقى هي أزيز الرصاص الذي يستهدف التلال!
هنا كان الإنتاج الأغنى والأكثر شاعرية. فهل كان ذلك بسبب وجبة الدجاج اليومية الأبدية المحروقة، أم بسبب الغرف المغلقة رهيبة الحرارة والتي لم تفتح إلا بالمعارك وبأحداث الشغب في معسكر مكافحة الشغب، أم عبر تراكم التجربة خلال هذه السنين، وبإغناء البنية الداخلية بوسائل فنية عديدة؟
ألاحظ الآن وأنا أروي التجربة إن الطابع الروائي أخذ يشق طريقه عبر القصص القصيرة. في هذه السنوات راحت القصص ذات الفقرات المتعددة والمرقمة، ولم أضع عناوين جانبية، تزيح القصص القصيرة جداً والمكثفة، تاركة المساحة لنمو الشخوص والأحداث المتعددة والمتشابكة، فمثلاً قصة «علي بابا واللصوص» والتي ظهرت في مجموعة «الرمل والياسمين» التي صدرت فيما بعد عن طريق اتحاد الكتاب العرب سنة 1982 بدمشق، تحتوي على سبع فقرات كبيرة مرقمة، هي أشبه بفصول مكثفة، أو مثل قصة «شجرة الياسمين» التي تتكون من تسع فقرات كبيرة، كذلك قصة «المصباح» و«الصورة».
ألاحظ الآن على هذه القصص القصيرة المطولة اعتماد البنية المشهدية المتنامية عبر المقاطع المتعددة، في شبكة من الأحداث والشخوص، مما يشير إلى بنية روائية مختزلة، أو مُضمرة.
لم يكن ثمة رغبة في كتابة رواية، ولكن العديد من تلك القصص كانت تقود نحو بناء روائي، بسبب تعدد الشخوص ومحاور القصة ومستوياتها. فـ علي بابا، في تلك القصة السابقة، هو حارس لقصر الملك، وهو دائم الأحلام، وتأتي الأحلام على هيئة حكايات متعددة تكشف قصة المغارة التي تتجمع فيها ثروة المدينة، وكذلك قصة حي الأزهار الفقير الذي يعيش فيه علي بابا، والأطفال الذين يسخرون منه، ولكنه وهو الحارس للقصر، يجد أن حريقاً أندلع ودمر حي الأزهار..
تتوجه هذه القصص إلى كشف عوالم الشخوص والبنى المحيطة بهم، وكلما اتسعت عملية التحليل، بدأ تاريخهم الماضي يفرض حضوره، والماضي بمستويين هما:
العربي القومي برموزه، والمناطقي الجزيري بتاريخه وعلاقاته القريبة المؤثرة بصورة مباشرة.
لهذا غدت القصة القصيرة لدي مقدمة للتجربة الروائية، أو هي استراحة فنية وتمارين بين روايتين، ومن هنا قادتني تلك القصص القصيرة المطولة إلى روايتي الأولى المعنونة باسم «اللآلئ».
رواية «اللآلئ» هي تتويج لهذا المشوار القصصي القصير، ذي البنية المشهدية المتعددة الصراعية، الواقعة بين الحاضر والماضي والمستقبل، والمُحاطة بتضاريس المكان والزمان.
3
ما هي العلاقات بين القصة القصيرة والرواية لدي؟
تظهر الرواية بقوة، عبر تجربتي، وتخفت القصة القصيرة، وتغدو محطات بحث فني واستثمار مختزل لمنجزات الرواية؟
رغم الوشائج بين الفرعين في النوع الأدبي الواحد، بين هاتين الجارتين في عمارة القصة، إلا أن التباينات هامة بينهما، فرغم الاشتراك في علامات الحدث والشخصية والزمان والمكان، إلا أن الافتراق كان كبيراً وخفياً، ليس عبر كم الورق، ولكن عبر قوانين البناء.
يبدو لي أن القصة القصيرة ذات علاقة باللوحة أو باللقطة، أو هي البنية المركزة التي قد تستدعي خيوطاً لا مرئية قوية مرتبطة برؤية الكاتب. إنها ذات علاقة بالتصوير، والنظرات الجزئية، ولكن الرواية ذات علاقة بالتاريخ والفلسفة، حيث هي تحويل لتلك البُنى المكثفة المتصاعدة إلى قراءة عميقة للواقع.
وإذا كان ذلك يبدو مستحيلاً بدون دراية بسمات النوع الفني والسيطرة عليه، فإنه يبدو كذلك مستحيلاً بدون دراية بالتاريخ والفلسفة، فهما اللذان يضعان الرواية على أسس صلبة.
لكن القصة القصيرة تأخذ شيئاً قليلاً من هذين العملين، أو قد لا تأخذ على الإطلاق، ولكن القصة القصيرة التي كتبتها تمردت على ذلك، راغبة في الإنشداد نحوهما، واكتشاف الأشياء.
من هنا لم ترتبط القصة القصيرة لدي باللقطة المركزة المفصولة، وبتصوير النماذج البائسة من الفقراء، بل غدت هي قراءة للفعاليات الإنسانية في حضورها المتنوع. فأنا لا أصور رجلاً شحاذاً، وأجسد بؤسه الراهن، بل أبحث عن رموز الفعل، أي كيف لم يتحول الرجل إلى شحاذ.
الآن وأنا أقرأ ذلك وأستعيده وأفكر فيه، لم أكن أخطط لهذه المواصفات مُسبقاً، وأجد أن عشرات الشخوص في «لحن الشتاء» و«الرمل والياسمين»، وقبلهما وبعدهما، تتلمس بذور المقاومة في الأرض والروح، في السقوط والنهوض، خارج السحر وداخله، في الفقر والغنى. الخ..
الفتاة في أقصوصة «الفتاة والأمير» تستغل السمكة السحرية للصعود من مستنقع الفقر.
علي بابا الحارس للقصر الملكي السعيد يحلم بالثورة.
الرسام في «شجرة الياسمين» التي تموت أخته عبر مرض خطير، يستعيدها باللوحة.
في قصة «العوسج» من الرمل والياسمين، يحتضر المخبر [الثوري] ويتذكر تدميره للجماعة عبر استعادة لمرثية مالك بن الريب في احتضاره.
وهذه الحالات المقاومة وسط تضاريس الدم والدموع والفرح، تنمو وتتجسد عبر شخوصها وحالاتها ورموزها، محولةً المقاومة إلى فعل موارب، ذائب عبر مادة الأشياء والحالات.
ومن هنا فإن هذه الفكرة تبحث عن حالاتها ومثيلاتها ودرجات نموها في الماضي، مما يؤدي لاتساعها وتشابكها مع تضاريس المراحل التاريخية المختلفة.
ولهذا أجد أن «الرمل والياسمين» التي كُتبت عبر سنوات السجن كلها [75 ~ 80] لم تكن تحمل هذه السمة فحسب، بل أن هذه السمة كانت تتجول عبر التاريخ، في مادة الخرافة، وفي عصر الخلافة، والمماليك الخ..
قل بأن السجين، كان مثل الأمة المعتقلة، وقواها الحية، يبحث عن حريته وصناعها في الماضي والحاضر.
في قصة «لعبة الرمل» يطلب الوالي من السجين أن يجتاز الصحراء في الليل، وإذا استطاع أن يقبض على غصن أخضر قبل طلوع الشمس، فستكون له حريته، وإلا سوف يُقتل!
إن روح المقاومة التي يبحث عنها القاصُ في المواد الخارجية يشكلها في روحه أولاً، ويتشابك معها، وينمو بها، وقد يهزمها فيصير قصه نثراً بارداً، وحالات من الصنعة المتقنة، فيغدو الغيم حيادياً، والمطر حالة موسمية، والأزقة فلكلوراً، والمراحل التاريخية الماضية فردوساً..
4
قبل أن تخرج من السجن يطلب منك الضابط أن تتحول إلى مخبر، قائلاً إن ذلك لا يعني الانقطاع عن [الانتماء] والكتابة!
في هذا الفهم البوليسي ليس ثمة تضاد بين أن تشكل قصة وأن تكون مخبراً، وتغدو ثمار المعاناة والاكتشاف والصلابة مُشتراة بكمية من النقود والقهر، ولكن في حالة الرفض للطلب البوليسي فإنك مطالب بمواصلة جمع الثمار الحارقة من شجرة الحياة مُجدداً، فلن تكون الوظائف النادرة مفتوحة لك، وستحارب في عملك وسكنك.
كانت ثمرة الخروج في سنوات الثمانينيات الأولى كتاباً قصصياً ثالثاً، هو «يوم قائظ» نُشر بدار الفارابي سنة 1985.
تبدو الأعمال في هذا الكتاب مضطربة نوعاً ما، قلقة، غاب عنها ذلك الزخم الشعري الواسع الذي تكاثر في المجموعة القصصية الثانية، وقلت تعددية الشخوص والأحداث، التي لجأت إلى الرواية، وغدت المشاهد أقصر وأكثف، ويجسد ذلك تنامي النوعين وافتراقهما، وتبدل ظروف الحياة والكتابة، فأجواء السجن أدعى للتأمل وإعادة الصياغة، في حين تقود ظروف الحرية والعمل والاشتغال في الصحافة إلى الاختزال والتعبير السريع.
لكن الأبطال الإيجابيين لم يختفوا من هذه المجموعة التي دخلت قيظاً وطنياً لاهباً، تمكنت فيه الجماعة المسيطرة من خلق عدة أوطان في الوطن الواحد، فوطن الأرستقراطية المميز قصور وفلل وتملك خرافي للنفط والأراضي والعمل المأجور الأجنبي، واستباحة للقوانين والدستور والعقل، وهناك وطن للناس العاملين المنقسمين طائفياً، والمشتتين، والواقعين في أسفل الهرم، والمذابين بشتى المهاجرين من شتى الأمم، وهناك وطن البورجوازية الكبيرة المتنعمة السائرة في ذيل الدولة.
مثل هذا التكوين الاجتماعي المغاير لزمن ما قبل السجن، كان انتصاراً لتغييب الإرادة الوطنية، وهو بنية افتراسية للأدب الحر.
وتقوم القصة القصيرة بالتقاط هذا الواقع المختلف، المضطرب بتجريب وبحث، وبالدخول في تفاصيله الجديدة، لأن اكتشاف البنية الاجتماعية قصصياً مسألة إبداعية.
إن الشخصيات الإيجابية ممزقة، مشتتة، وإيجابياتهم الفردية تضيع وسط سلبية عامة، وسلبياتهم الخاصة تنمو وسط خراب روحي متصاعد.
إن الشخصية المحورية في قصة «الدرب» من هذه المجموعة، عاملٌ هندي يموت أثناء إنشاء طريق في الصحراء، وهناك الرجل الذي يروي القصة، وهو زميل للعامل الهندي جوزيف، وهو يعمل معه في إنشاء الطريق الصحراوي بالإسفلت المشتعل، وهو رجل معذب آخر، والقصة لا تكتفي بمشهدية بناء الطريق، وهي المشهدية البؤرية الأساسية، التي تتخللها ذكريات واسترجاعات صغيرة وامضة لجوزيف وهو يعمل ليلاً أيضاً في البار، وهو يضرب، وللراوي أيضاً وهو يُخرس من قبل زوجته لئلا يحتج، والطابور يتحرك ويتغلغل في الصحراء..
(نظرنا إلى بعضنا البعض، رجالٌ سود وصفر وبيض، أنبتتنا جبالٌ وانهار ومدن وصحارى والقانا التيار الصاخبُ في جدول ضيق..).
مشهدية البؤرة تتداخل والاسترجاعات الثانوية لتصعدها، في الانفجار الداخلي بموت العامل الأجنبي، وبالصخب المتوقع لهذا الجمهور المُستلب، ليحل الصمتُ المؤلم في النهاية.
إن الأبطال غير بطوليين، وتتشكل ثيمات الانقسام والتآكل الداخلي، والحلم، وتتفاقم الكوابيس والانشطارات، والشخوص والحالات تومض.
في قصة «الجد» ترى العائلة كلها بأن الصبي، الشخصية المحورية في القصة، مريض، ويأخذه الجد في رحلة تتناثر فيها صورُ العائلة ومواقفها، ويظهر أن أفراد العائلة هم المرضى، وليس هذا الطفل الحزين عليهم.
5
كانت العلاقة الأولى التي نشأت لدي بين القصة القصيرة والرواية، هي أن الرواية كانت مضمرة في بعض بُنى الأقاصيص، كانت تمتحن وجودها وتكويناتها الأولية، ولهذا حدث ذلك الأتساع الكمي للقصة القصيرة. ولكن في عقد الثمانينيات أخذت الرواية المشهد الأساسي في التأليف فظهرت روايات عدة: «اللآلـئ» ~ «القرصان والمدينة» ~ «الهيرات» ~ «أغنية الماء والنار» ~ «مريم لا تعرف الحداد».
كانت العناوين والموضوعات الوطنية تنمو على نحو واضح.
ولم تعد القصة ببنيتها القصيرة قادرة على استيعاب التحليل الموسع للشخوص والأحداث. وإذا بدت الروايات كروايات قصيرة في هذا العقد فكأنها لا تزال تعيش مناخ القصة القصيرة، لكنها قصة اتسعت مشاهدها، وشخوصها، ودخلت في عالم تعددية الواقع وأصواته ومستوياته.
ولكن هناك تداخل بين الجنسين، وأظن إن الرؤى الأساسية التي كانت في تلك القصص تعمقت وحصلت على بعض بذورها.
في قصة «علي بابا واللصوص» ثمة مقاطع قرأتها عند إعداد هذه الورقة رأيت فيها كيف كانت بذرة لتكون رواية «أغنية الماء والنار»، حيث يجري الحارس علي بابا إلى واحة الأزهار ليجد غابة الأكواخ محترقة.
وهذا مشهد حقيقي جرى في حينا. وأظن إن علي بابا قد تطور في الرواية ليصبح هو راشد، الذي كان يبيع الماء للأكواخ ثم قام بحرقها بناءً على علاقة مع مالكة البيوت تلك.
إن شخصية المنتمي المنقسم، وصراعاته بين القوى المختلفة، كانت بذوراً في القصة القصيرة وغدت مساحة واسعة، وتكوينات بشرية متعددة، ومشاهد مستقاة من الواقع، والحدث العابر في القصة القصيرة صار هو المحور الروائي، سواء قبل تشكله أم بعد حدوثه.
6
مثل عقد التسعينيات استمراراً لتدفق الرواية، ومتابعة القصة القصيرة لها، وتقطعها بينها. فهناك خمس روايات وثلاث مجموعات قصصية على مدى هذا العقد.
ولم تزل القصة القصيرة محملّة بثقل الشحن الحدثي والرمزي. فأي بؤرة قصصية لا تكتفي بذاتها، فهناك دائماً خيوط صغيرة مشدودة إلى آفاق لا مرئية.
إن البنية المشهدية المتصاعدة لا تزال هي أساس التشكيل القصصي، لكنها مُحملة برموز وتداعيات مكثفة.
سوف آخذ فقط المجموعة القصصية الأولى في هذا العقد وهي «سهرة» الصادرة سنة 1994، فلقد ترنحت الشخوص الإيجابية وغدت أكثر ملموسية، وحاولت أن تكون أحفل بالصراعات الحقيقية، دون إذابتها في التفاصيل الثانوية.
في قصة «الرمل والحجر» يقوم البدوي مظفر باقتحام خيمة عالم آثار لينتزع الحجر الأثري الثمين منه.
ونجد البنية المشهدية باتجاهين، اتجاه كشف حياة العالم الغربي، واتجاه لكشف حياة مظفر، عبر الصراع بينهما، حيث يحاول الأول الاحتفاظ بالحجر، ويقوم الثاني بسرقته.
إنهما نموذجان متضادان، فالعالم رجلٌ يعمل لكشف مدينة أثرية، وقد وجد الآن مفتاحها وبابها، وكان قد عانى طويلاً وفقد زوجته وشاخ في سبيل هذا الكشف.
أما الآخر فقد قُتل أخوه بيد الأمير لأنه أحب جاريةً لديه، فقام مظفر بالثأر لأخيه، وأصبح مطارداً طوال سنين، فراح يسرق ليعيش.
الرجلان يعبران عن تصادم غريب يمكنه أن يجمع تضادات جغرافية واجتماعية وثقافية.
أظن إن القصة القصيرة بهذه الصورة تغدو مشحونة ومتوجهة لرصد مسارات تتجاوز الانعكاسية المباشرة والأرصاد الجوية اليومية.
هل يؤدي ذلك إلى تراكب وتقد القصة القصيرة؟ هل يساعد التصوير الملموس على فهم الأبعاد الصراعية للحظة؟ وهل يؤدي هذا إلى تجاوز القصة القصيرة المحدودة أم إلى اختناقها؟
إن كل هذه أسئلة مفتوحة للحوار.
ولنأخذ قصة أخرى من نفس المجموعة هي «خميس»، إن القصة تُروى من خلال أسلوب الراوي، وهو ربان السفينة ومالكها.
كان يمكن لأسلوب الراوي أن يزيل البُنية المشهدية، لأن تدفقات الراوي غالباً ما تكون حرة، إلا أن التجسد المتنامي ظل مستمراً واضعاً شخصية الراوي نفسه وخميس في علاقة فنية.
خميس، الرجل الشعبي القوي والبسيط، يغير حياة الراوي تماماً، فسفينته الصغيرة ومدخوله الشحيح يتحولان بصورة طفرات، ويلعب خميس دور صانع الخوارق والتحولات المدهشة في حياة الربان، ففي أيام البحر يغمره باللآلئ، وفي أيام الكساد الغوص يكتشف الزيت.. ولكن الآلة تقطع ساقه ويزاح من عالم الربان الذي يحن إليه قليلاً..
في هذه العلاقة الصراعية التعاونية، الواقعية السحرية، هناك نموذجان يصطدمان ويعبران عن مراحل وتوجهات متضادة.
— — — — — — — * محاضرة ألقيت في مهرجان الرباط الدولي بدعوة من اتحاد كتاب المغرب.
تجربتي في الرواية*
كانت عائلة صغيرة قد قدمت من بلدة بحرية (مدينة الحد) وسكنت مدينة المنامة في مجمع كبير للبيوت المصنوعة من سعف النخيل. فقدَ الأبُ ورثَ أجداده البحارة أصحاب السفن والغوص على اللؤلؤ والتجارة، وصار عاملاً زراعياً في شركة النفط، وبسبب هذا الانتقال إلى هذه المنطقة المليئة بالأحداث والجماعات السياسية وضعني والداي في بؤرة الصراع، والأب اشترى لي بعض السير الشعبية والأم قدمت لي الشعر العامي والأغاني، ثم رفضا ثمار هذا التحول.
فهي قبل أن تموت، وفي زمن عصف الشباب السياسي، وكانت الغرفة تمتلئ بدخان أوراق التقارير السياسية المحروقة، قالت لي أمي:
[دع عنك هذه الأوراق].
كانت الأوراقُ كثيرة: كتبٌ ومجلاتٌ ومعها أصدقاء كثيرون، وخلايا في حارات المدينة، وثمة أحلام كبيرة بتغيير الوطن والعالم، ووقوفٌ صامدٌ طويل مرهق أمام عيون الطلبة في الصباح.
كانت أوراقٌ كثيرةٌ تحترقُ أو في طريقها للاحتراق ، فحين جاءت الشرطة في صبيحة يومٍ أغبر هو الثالث والعشرين من أغسطس 1975، يوم حل البرلمان في البحرين، أصر العريف على حمل كل كتبي عن التراث الإسلامي ونصوص الروايات وكتب الفكر إلى الجيب، فسألته وما دخل كتبي؟ لماذا تريد أن تأخذها هي الأخرى؟
معتقداً بأنني سأعود إلى هذا البيت الهادئ مرة أخرى، ولكن العاصفة أخذتني.
رفع العريف سماعة هاتف بيتي واتصل منها وجاء الأمر بحمل مئات الكتب من المنزل البسيط في حارة الفقراء! فيما بعد رأيتُ المحرقة عند بوابة قلعة المنامة، فكانت براميل سوداء لا تختلف عن أية براميل للحرق ، وفي خطوطها السوداء المتفحمة رأيتُ مصير الثقافة والرواية في عالمي!
في زمنِ تعليم الأطفال والأولاد تصعب الكتابة الأدبية، وفي زمن الطرد من مهنة التعليم بسبب الدعوة لإصلاحها ، والاشتغال في صحافة التحقيق المنتوف الريش والأظافر، تصعب الكتابة الإبداعية، فاللهث وراء اللقمة وكتابة حروف انعكاسية عن الأسعار والأكواخ، تمزقُ آخرَ ما بقي من رقة وخيال!
والآن أطبقتْ أسوارُ السجن، ووقفت القبضاتُ الصلدةُ على الباب ، فلا ترى العينُ سوى الجدران، أو الأصدقاء، ولا تسمع سوى شريط الماضي يتدفقُ صوراً، وكتلة الأحجار والقبضات مكونة من أجل أن تنتزع آخر ما بقي في رأسك من حلم، وآخر ما في روحك من حروف.
ولكن عليك أن تقرأ سواء من مكتبة السجناء الفقيرة أم من جريدة تحصل عليها، والجريدة ليست سوى أوراق ملوثة عليك أن ترفعها من برميل الزبالة وتخبئها في فوطتك وأنت متجه لدورة المياه في الصباح البارد.
كلُ شيءٍ يدعوك للموت الثقافي، الصراخ والعلبة الأسمنتية الصغيرة ووجود الرفاق المستمر فوق رأسك، وغياب الشاي والهدوء والنساء.
لكن الكتابة في الظلام ممكنة، حين يختفي النورُ منذ العصر، يمكنك أن تخربش فوق الورق المعتم، وتملأ رأسكَ بالحبكات القصصية، التي تكبرُ كل يوم من اليوم السجني الطويل، تتعثرُ بالأرز اليابس، أو بشوربة العدس الأقرب للقيئ، أو بأشباح النسوة لكن الكتابة تنمو فوق الأرض الحقيقية ، تسحب الصواري من عند البحارة الذين غطسوهم موتى وهياكلَ خاليةً من المعنى في قعر الخليج، فتغدو الروايةُ الكبيرة المخططة في الرأس روايات عديدة.
كتبتُ روايات عدة على أوراق السجائر وعلب الصابون في السجن، مثل: الدرويش والذئاب، و لا مكان للصعلوك بين الملوك.. ورواية عن شهرزاد المسجونة بعد قصصها المثيرة للقلق، ولكنها كلها لم تنشر، كانت مليئةً بالخيال وخاليةً من العظم الإنساني، وشخوصها كأشباح تمشي في زمان بلا مكان، إذ تحدثت عن شخصيات تكون هاربةً منسحبة إلى أدغال ذاتية رمزية، وإذ ثارت تكون ثورتها مسيّسة صارخة. وهي بلا وطن معين، وبلا بشر منتمين إلى بنية موضوعية..
لكن في سنينك العجفاء الحجرية هذه قد تتصاعد إرادتك وقد تذبل. قد تحول ذكرياتك وعلب الصابون إلى نسيج من الكلمات، وقد تفقد إيمانك ودورك وتصبح كلماتك من أجل أناك فقط.
هذان طريقان من طرق عديدة قد رأيتها فيّ وفي الآخرين، والرواية تتشكلُ هنا كمحاولةٍ لهدم السياق النثري التبسيطي، ولهذا تزخرُ باصطناع أدوات تقنية لعدم الوقوع في سطوة الجدران والصراخ الليلي لأناشيد المعتقلين، ومن هنا تـُرفد بخيالٍ فسيح، تسمحُ به أيامُ وليالي الفراغ الطويلة، ومن جهة الدلالة تقومُ بالانغراس في جذور الأرض لأن كل يوم هو لحظة ألم وأمل، خاصة أن أرواح السجناء الحية تتعفن أمامك. يصبح الماضي ملاذاً مهماً. فتنسجُ من ذكريات وقصص متشظيةٍ يرويها الأبُ عن زمنِ الغوص، ومن استدعاء لتاريخ الخليج بسفنه واحتفالاته وطقوس بحره، ومن كتب الخلايا الوطنية المليئة بروايات المقاومة، ومن أحاديث وموضوعات السياسيين والمؤرخين، ومن لفائف السجائر وخيوط العنكبوت الغازلة للرماد والتراب والحرير، ومن موت الأم المفاجئ السريع، فتطلع إشعاعاتٌ ويتشكل وميضٌ، وتتشكل الشخصية المأزومة المقاومة لب الحياة في قص من هذا النوع، وهكذا تظهر القصص القصيرة أما أن تكتب رواية فأي ورق هنا وأي دار نشر ستنشرها وأين الأقلام؟!
كذلك فإن للرواية نسيج حدثي وشخوصي كبير، متشابك، ومتنامٍ، والرواية في البحرين وقتذاك زمن أواخر السبعيينات من القرن الماضي لم تظهر، فكيف ستظهر من السجن؟
كانت الجدران تحيطُ بنا، في الداخل والخارج، فذاكرة بشرنا ممسوحة من الملاحم، ولا يوجد لنا أرشيف إبداعي، وحتى تاريخ مسجل وقتذاك، ولهذا كان الأمر يتطلب الكتابة الروائية حقاً، ومن قعر تلك القفة الحجرية، في معسكر في الصحراء، في صندوق من الخشب معمي العينين، إلا من ثقوبٍ صغيرة تحددُ لك أشباحَ القادمين المفاجئين ، يمكنك أن تكتب روايتك الأولى على قراطيس السجائر. والروايةُ سواء كُتبت في قصر أم في مركز للإعدام في سافرة، فإنها لا بد أن تأخذ شهادتها الشرعية من بنائها.
كانت الرواية الأولى التي نـُشرت لاحقاً باسم (اللآلئ) بها الشرارة التي بحثت عنها. هنا وقفتُ على أرضي، هنا تلفتتُ فوجدتُ وطني. رأيت أبي وخالي وأمي. رأيتُ السلاسلَ والأزهار والأساطير. إنها عن الربان المغامر، عن النوخذا القاسي الذي يؤخر سفينته بعد انتهاء موسم الغوص طمعاً في المزيد من اللؤلؤ الثمين يواجه بعاصفة مفاجئة تطيح بالسفينة على إحدى الجزر.
ليس عرض صراعات الغوص، وظلالها المعاصرة، هي فقط ما شدتني إلى تلك الشخوص التي ظهرت فجأة بل أيضاً اللغةَ المتشظية المنفجرة المتداخلة سرداً وحواراً والراجعة دائماً إلى الوراء بحثاً عن خيوط الشخوص وأسرار المكان. إنها عودة دائبة للزمن الخلفي كمحراث أساسي في شق تربة الحاضر أمام تطورات الصراع المشهدي المتفاقم باستمرار.
هذه اللغةُ التي أحببتُ أن ترافقني وأنا أعيدُ النظرَ الفني في تاريخ الخليج وزمنه الراهن، وأن لا تتوقف مسيرة الغواصين عند جزيرة النوارس الفارغة من التاريخ والبشر في [اللآلئ]، بل أن تمتدَ خيوطُ السرد من قلب البحر إلى الطوابق المتعددة المهدمة المتصارعة المتشكلة في روح الإنسان.
وأنا في السجن وفيما بعد في أحداث الحياة الحافلة وفي البطالة الطويلة وكتابات الصحافة، انشغلت بالتقنية التي راحت تتهدم وتنبني بإيقاعات مضطربة، خائفاً دائماً من أن تأكلني التقارير ولغة الصراخ. كان الصراخ هو الانفجار النفسي والفني الوحيد الممكن في شريط حجري محاصر. كثيراً ما نصرخُ في الليل موقظين الصحراءَ العسكرية إلى فقداننا للهواء، خائفين أن نفقد الفن وخائفين أن نفقد اللغة والحياة فجأة، وهذا الشعور يدفعنا للمغامرات الفنية بأساس حيناً وبدون أساس حيناً آخر، فقد تشبعنا من مسامير الواقع وصدئه الكثيف في أعمال الانعكاس، ومن هنا أخذتُ في التركيب الشخوصي والحدثي وفي تعدد الرواة إلى درجة التداخل الشديد أحياناً كما في [القرصان والمدينة]، هذا العمل الذي أعدت النظرَ فيه في طبعة ما يسمى بالأعمال غيرالكاملة.
فشخصية المدرس المحورية لم تكن تروي لوحدها حدث خطف زوجته من قبل الفنان الكبير كامل، بل أن الربان المتهم بالقرصنة كان يروي كيف خان الثورة وسلم مراكبه للعدو.. روايتان على مستويين زمنيين مختلفين متداخلين.
وفي اللغة التي تغدو غايةً غير منفصلة عن المعمار، وفي الشخوص والأحداث المركبة وفي التكثيف تكونت أساسيات الرواية الأولى، اللآلئ، القرصان والمدينة، والهيرات (أي المغاصات)، وأغنية الماء والنار، وامرأة، والضباب، وكان عليها أن تتغير مع تبدل حالة الكاتب وهو يخرج من العزلة.
حين جاءت الثمانينيات خرجتُ من بين الجدران، بأعمال قصصية وروائية مخزنة في علب الحلاقة، وكان عليها أن تخرجَ من بين السوائل عبر آلة كاتبة قديمة أخذت تشتغل فوق طاقتها، في بيت أبي الذي لم تعد فيه أمي موجودة لكن كثرت فيه الأوراق التي لم تكن تحبها. وقد كلمت أشباحها الكثيرة إنني لم أحرق الورق فقط. والوطن لم يعد هو الوطن فثمة أحياء أخليت من العقل واجتاحها جنونُ الدكاكين الأجنبية، وغدا فيها البشر حصالات متجولة. تعملقت الدولة وصارت حوتاً يبلع البشر ومال الناس والقيم وصار بيع الروح هو الخيار الوحيد لتحصل على عمل ومسكن وصورة في الجرائد.
وهنا لا بد أن تعود لغةُ التواصل المباشرة وتنقطع استراحة المحارب الشعرية، ويعود القاص المنعزل إلى صحفي على أرض ملأى بالحطام وبفتات المناضلين وباستيلاء الماضي السحري والديني على الحاضر الضائع.
كنت أمشي نحو المجلة التي اشتغلتُ فيها أكتب تحقيقات، أركض نحو المزارع والأحياء، وأوقن أن مسألة الكتابة القصصية والروائية مستحيلة.
لا يزال النوخذا المهووس باللآلئ سابقاً وبالذهب والنفط والرقيق والآثار راهناً، والمغامر بحياة بحارته، لا يزال يمسكُ الدفةَ بين صخور العصر ونافورات النقود، وقد تحول إلى مجنون يبيع أرضه ونخله وبحارته وأبناءه لمن يدفع، وصار الواقع جملةً من الكوابيس، وغدت المقاومة نفسها انتحاراً أو جنوناً آخر..
لكن صحافة التحقيقات فتحت عيناي على الأدغال المتوارية وراء الشوارع الرئيسية حيث القرى والأزقة المثقلة، والتي انفجرت في صراعات دينية ضارية.
أكدت الانفجارات الدينية محدودية الرواية الواقعية، فذلك الحفر فوجئ بضخامة الموروث، وطلع ربانٌ آخر يريد قيادتنا للماضي، وتناولت رواياتي وروايات آخرين ما هو معاصر، وأنشدت للراهن والجزئي غالباً، في حين أن الدين وجذوره الموغلة في القدم غير مرئية بعمق في هذا الراهن المروي ونحن في غربة برواية محدودة القراء وبلغة صعبة وفي زمن أزمة الكتاب!
ولهذا رحتُ أقرأ مجدداً الإسلام والتاريخ العربي، وأعتزم أن أشكل رواية كبيرة عن الفتوحات الإسلامية، ولكن هذه القراءات أخذتني لبحث هذه الفترة وصراعاتها الاجتماعية وتياراتها الفكرية، حتى صارت عدة مجلدات عن تطور الوعي الفكري والفلسفي.
حينئذ غدت الصراعات الروحية تتجسد في أكثر من رواية معاصرة مثل رواية (الأقلف). وهي عن الطفل اليتيم المشرد الذي تتسع دائرة حيرته لتصل أطراف الدنيا المتباعدة فيصير الانتماء أما إلى الشرق أو إلى الغرب، إلى الإسلام أم إلى المسيحية؟ إلى الوطن أم إلى الاستعمار أم إلى الإنسانية؟
شدتْ دراستي الطويلة عن الوعي الديني أنظاراً، وغدت دائرة الحوار مع اتجاهات متعددة تتسع، فقد غدا الدين محور الوعي في هذه المرحلة الشائكة، وفي لحظة خاطفة غريبة: قلت لماذا لا تغدو الرموز الدينية مجالاً للرواية، وقد شدتني خاصة شخصية الحسين، وانقطعت عن ما كـُتب عن وجوده الحي، آخذاً رأسه المقطوع الدامي في رحلة روائية لم تؤخذ من قبل.
أما الضجة فقد حدثت على رواية (عمر بن الخطاب شهيداً) ثم (عثمان بن عفان شهيداً) اللتين منعتهما الرقابة في بلدي، وهما روايتان تبجلان كذلك رموز الإسلام لكنهما تتناولان الصراعات الحقيقية الدائرة وقتذاك.
إن كتابة الرواية التاريخية عملية صعبة ليس بسبب الدخول لتجسيد الصراع الاجتماعي في ذلك الزمن التأسيسي المقدس للأمم الإسلامية، بل كذلك بسبب تصوير ما هو ملموس من أشياء ومناخات وأمكنة، فمعرفة النباتات والفواكه لا تنفصل عن وضع الشخصيات في تلك المواقف الدرامية والمأساوية للشخصيات العظيمة وهي تـُقتل في ذروة الانتصارات والانقسامات العميقة النارية تتصاعد بين صفوفها، لكن الرواية العربية وخاصة التاريخية لها مهمات خطرة يجب أن تنجزها وترافقها بحوث مفككة للوعي المتكلس المستمر.
هذه لمحاتٌ خاطفة عن تجربة بدأت عند شواطئ قصية للوطن العربي، ومبعدة عن التعليم والنشر، ثم راحت تتغلغل في جذوره وماضيه بحثاً عن تفكيك قيود أحاطت بنا كزنازنة هائلة، لا ينفع معها الصراخ بل التحليل العميق لبناها الغارقة في القرون الوسطى.
— — — — — — — * محاضرة ألقيت في مهرجان الرباط الدولي بدعوة من اتحاد كتاب المغرب.
مبدعٌ
يعمل الروائي البحريني الكبير الأستاذ عبدالله خليفة، بدأب وصبر، على ترسيخ تجربته الكتابية والإبداعية عموماً، بما يشكّل حالاً متميزة قلّ نظيرُها من الإخلاص والتفاني، من دون النظر إلى المكاسب الآنية والعاجلة، وبما يحافظ على ذاته المبدعة من الوقوع رهينةً لواقع كان ~ ولا يزال ~ شديد القسوة تجاه المبدعين الذين يحملون على كهولهم عبئًا شديدًا في خلق حال من التواصل بين المبدع من جانب ومجتمعه من جانبٍ ثانٍ.
هذا المبدع الذي تكرّس في أعماله على قراءة نماذج وشخوص من قاع المجتمع، ينتمي هو ~ بهمومه وأحلامه الإنسانية تجاه الآخرين ~ إلى الطبقات الاجتماعية المسحوقة نفسها التي عانت شظف العيش، وأحلام الأفكار. ودفع ضريبة ذلك كله سنواتٍ من عمره في المعتقل، دفاعًا عن آرائه وحريته في الالتزام. ومع خروجه من المعتقل، لم يعرف التراجع عن آرائه وأفكاره، وبقي مُصِراً على الانتماء إلى الهامش الاجتماعي نفسه الذي خرج منه. ولعلّنا من هذه البوابة، بالذّات، نفهم ونقرأ كتاباته عبر عموده اليومي في الزميلة «أخبار الخليج»، وبقية مشروعاته الفكرية التي يعمل عليها ضمن أوراق بحثية عدة قرأناها له، وليس آخرها ورقته التي قدّمها في أمسية أسرة الأدباء والكتّاب بتاريخ 27/12/2004 عن «الحركات التغييرية في التاريخ الإسلامي الأول».
ومع التأمل الجاد في نتاجات عبدالله خليفة، سنجد أنها تصل بين جهده الفكري وجهده الإبداعي عبر ثيمة «الهم الاجتماعي».. ولكن مع ضرورة الالتفات إلى جملة من الملاحظات التي ترد على أوراقه البحثية. ولنأخذ ورقته الأخيرة التي قدمها بأسرة الأدباء مثالاً على ذلك. فقد كانت ورقته وفية لمنهجية تلتزم بالطرح المادي كمعطىً أساسي في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية. وهي منهجية على رغم أهميتها الشديدة في العرض والتناول، فإنها من المتوقع جداً، وقد حدث مثل ذلك كثيراً أن تغفل معطياتٍ أخرى ربما تفوق في أهميتها هذا المعطى، وهي ~ حتمًا ~ لن تقلّ عنه أهمية. ولعلّ الأفكار والقِيَم ~ وعلينا أن نتذكّر إخلاص المبدع «عبدالله خليفة» لأفكاره ونظام القيم الذي ينتمي إليه كان حاسماً في مساره الخاص، ويبقى حاسمًا لآخرين كانوا يشكّلون وجوداً شعبياً مهماً في لحظة تاريخية ~ تحظى في كثير من الأحيان بأهمية قصوى في كشف جوانب نموّ الحدث التاريخي، وخصوصاً إذا كان ينتمي إلى جبهةٍ معارضة للسلطة، سواء كانت سلطة فكر أو سلطة مال وامتيازات أو حكومة. هذا مع الالتفات إلى أنه لا يمكن إيجاد فاصل حاد بين الأفكار والقيم من جانب وبين سلطة المال أو الحكومة من جانب ثان. فتحدث اشتباكات كثيرة بينهما، لا يمكن أبداً تجاهلها حال تفسير الأحداث والحركات، وتطور الأفكار، ونموّ الشخوص التاريخيين. وهنا، علينا أن نعلم أننا واقعون في نطاق مأزوم بين الواقع والزيف التاريخي. وليس، ثَمَّ، تاريخٌ واحدٌ مستقرٌّ بل تواريخ تتسم بالتناقض الشديد. ويضاف إلى ذلك سؤالٌ أساسيٌّ يتوجّه إلى ضرورة تدقيق استخدام المصطلح. فما المقصود بالحركات التغييرية؟ وما المقصود بالتاريخ الإسلامي الأول؟ وهل لهذا التاريخ الإسلامي الأول أن يتجاوز فترة «الخلافة الراشدة» إلى العصر الأموي ثم العباسي؟ إلخ..
ويبقى أن كل هذه الملاحظات والإشكالات التي ترد على عمل عبدالله خليفة، لا تقلل من قيمة جهده البحثي، وهو جهدٌ يتسم بالرصانة والحرية في النظر، بعيدًا عن الارتهان لمسلّمات سابقة موروثة ومتعارف عليها. وهو، على أية حال، المبدِع الذي لم يعرف نتاجه تراجعًا ونكوصاً عن مبادئ وقيم وشخوص وحوادث لم ينفصل عنها قط .
إن الروائي والكاتب عبدالله خليفة نموذجٌ للمبدع الحر الذي أنجبته هذه الأرض الطيبة الولود، والمستحق للتكريم. وذلك أدنى ما يمكن أن يقال عن مبدع استمر أكثر من ثلاثة عقود متواصلة قابضًا على جمرة الفكر والإبداع..
ـ حسين السماهيجي: شاعر صوفي من البحرين
نصف موت أو حياة جديدة
قد يتساءل قارئ يتصفح الجريدة وهو في طريقه إلى عمله مبكراً، لماذا تنهال المقالات والأخبار بشكل مبالغ فيه حين يغيّب الموت كاتباً أو روائياً، أو مفكراً، أو شاعراً، أو غيره من المثقفين؟ ماذا يختلف موت هؤلاء جميعاً عن موت شخص عادي أمضى حياته بين العمل وبيت العائلة؟ هل موت المثقفين يختلف عن موت الناس العاديين، ولماذا يصبح منجز الكتّاب مهماً أكثر بعد موتهم؟
أسئلة لا يمكن الإجابة عنها سريعاً، كما لو أننا نجيب عن أسمائنا، أو أعمارنا، فللموت حكايته التي لن تتوقف، والكتابة سيرتها الغريبة، وللكتّاب هيبتهم العالية، وذلك كله يستدعي الوقوف طويلاً والتأمل بكل هذه المفردات الغامضة والواضحة معاً .
غيب الموت الروائي البحريني عبدالله خليفة، تاركاً خلفه سيلاً من الحبر الهادر على مئات الصفحات الخليجية والعربية، ومثيراً من جديد كل تلك التساؤلات التي مرت في بال القارئ المتجه إلى عمله باكراً، فالراحل قامة روائية عالية لها حضورها اللافت في المشهد البحريني والخليجي والعربي، صنعتها عشرات المؤلفات، ومئات المقالات الفكرية والنقدية والسياسية .
لا يختلف موت المثقفين عن موت سائر البشر، إلا أن موتهم يعني توقف مشروع أدبي أو فكري، أو شعري عن النمو، مشروع يمتد تاريخه إلى عشرات السنين، وهو ما يعني توقف مؤلفات كان من شأنها أن تحدث فعلاً جمالياً، أو تنقب عن عطب وتشير إليه، أو تكشف هوية ظلت غامضة، أو غيرها من أغراض الفعل الإبداعي الكتابي .
بموت الروائي عبدالله خليفة، الذي بات يعتبر عرّاب الرواية البحرينية، توقف مشروع هائل من الجرأة، والحفر العميق في الثقافة الخليجية، والتأصيل لمفرداتها، فهو أنتج علاقة مغايرة مع البحر، هذا التكوين الهائل الذي يمثل جزءاً من هوية المواطن الخليجي، وحلقة من تاريخه مع الجغرافيا، وتوقف عند إشكاليات لافتة في الثقافة الخليجية تم تكفيره على إثرها.
فما لا شك فيه أن عبدالله خليفة كان صوتاً متفرداً في الفضاء الثقافي الخليجي، وكانت له رؤاه وآراؤه المغايرة، إذ يقول في إحدى مقابلاته حول تطور الرواية الخليجية: «إن جيل الكتابة الروائية في الخليج لم يظهر سوى بعد إنجاز الثورات الوطنية في النصف الثاني من القرن العشرين»، من هنا، فإن معظم نتاجاته الروائية متجهة لقضايا اجتماعية تنموية، وقضايا التعسف الحكومي (الوطني) وجسد اختلاف الرؤى في طرق التنمية والتعبير عن معاناة النماذج الشعبية المسحوقة غالباً.
يبقى القول إنه إضافة إلى ما يمتاز به موت الكتاب عن غيرهم، فإنهم لا يموتون تماماً أو كأنهم يموتون حتى منتصف الموت، أو يحيون من جديد، فهم يتركون خلفهم عشرات المؤلفات التي تبقيهم أحياء في ذاكرة القراء، وهذا هو حال عبدالله خليفة الذي ترك للمكتبة العربية أكثر من خمسين كتاباً بين مجموعة قصصية، ورواية، ودراسة فكرية نقدية، ذلك إضافة إلى مئات المقالات التي نشرت في عشرات الصحف الخليجية والعربية .
ـ محمد أبوعرب: شاعر وصحفي اردني
عبدالله خليفة.. كي لا يُدفن مرتين !
في الحادي والعشرين من أكتوبر 2014، خسرت الساحة الثقافية والأدبية والسياسية والصحافية, البحرين ومنطقة الخليج عموماً واحداً من أبرز روائييها, كتابها الصحافيين, باحثيها الجادين, مثقفيها النقيين ومبدعيها الذين انحازوا لنصرة المعذبيين على البحر واليابسة, ودفع ضريبة مواقفه وعشقه للحرية والتنويروالانتماء الوطني, هذا الانسان اسمه عبدالله علي خليفة البوفلاسة.
عاش حراً ومات حراً.. مات ولم يملك شيئاً غير مؤلفاته الغزيرة، ولكنه عاش ولم يتملكه أحد أو يجيره، ألف أكثر من 50 مؤلفاً بين رواية ودراسة وبحثاً نقدياً في الأدب، كانت له كتابة يومية للرأي في ‹الافق› وتحقيقات صحافية ميدانية وكان مسؤولاً عن تحرير الصفحات الثقافية.. بعد وفاته لا زالت تحت الطبع ثمان روايات جديدة لم تطبع بعد من بينها رواية ‹رسائل جمال عبدالناصر السرية› ورواية ‹ابن السيد› و‹خليج الأرواح الضائعة› بالإضافة إلي الجزء الرابع من سفره الفكري الكبير: ‹الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية› تحت عنوان ‹تطور الفكر العربي الحديث› وكلها تنتظر الولادة.
حتى آخر يوم في حياته كان يقرأ بنهم ويكتب بغزارة، فكانت آخر قراءاته رواية ‹وجهان لحواء› وجدها شقيقه عيسى بالقرب من وسادته وبين اورقها رشوتات المستشفى وعشرة دنانير، هذه الرواية الأخيرة التي قرأها من تأليف ‹أمريتا بريتام› واحدة من ضمن سلسلة ‹إبداعات عالمية› للعدد رقم 326 من هذه الإصدارات التي ينشرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب الكويتي. آخر ما خط به قلمه في دفتر مذكراته كلمات توديعية مؤثرة قال فيها: تأتي الريح وتقذفه بعيداً بين أشجار العصافير وأجنحة النسور.. يمضي مع ورق الشجر المتطاير من الصخور وثلل بشرية خريفية تتساقط في المدن.. يشق طريقه تترامي قراطيس كثيفة له في الأزقة.
في البناية الرثة (…) كلمة غير واضحة. ربما قصد بها ‹أشاهد› الحمامات، تعيش في الشقوق وتتزاوج (يتحث عن الشقة العتيقة التي سكنها طيلة 21عاماً والمبنى المقابل لشقته حيث كانت الشقوق محاكر للحمام)
يخبرنا في أخر كتاباته: ‹أخوه يحيط به مثل الشجرة. من أصابعه يظهر الحليب والبيض وأصوات المعادن. (الاواني).
الآله تطلقه في الفضاء.. ومليون دوار، الشارع مغلق.›. (يتحدث عن شقيقه عيسى الذي كان جليسه الوحيد في الشقة العتيقة حتى آخر أيامه ويقوم بخدمته).
كتب الروائي اليساري الراحل عبدالله خليفة هذه الكلمات الأخيرة بخط يده وهو يحتضر قبل يوم أو يومين من رحيله على ما يبدو، واضح من ارتجاف قلمه في يده وتباعد الحروف، لكنه أبي إلا ان يكتب آخر الحروف بوداع حزين يختزل شذرات حياته بالعطاء الأدبي والفكري والنضالي التاريخي الدائم بعد ان أضناه مرض العضال الذي نتشر في جسده ولكنه لم يستسلم له حتى آخر دقيقة من عمره.
هذا الإنسان الرائع والمبدع والنقي الإيديولوجي. بالمناسبة كان عبدالله حين يمتدح شخصاً من رفاقة ومحبيه بم يكن بين الحضور لا يقول ‹هذا الرجل› بل ‹هذا الإنسان› بما فيها من دلالة لا شوفينية ولا قومية ولا أو عقائدية، كان يكتب القصة القصيرة والرواية منذ أواخر الستينات حتى غدت مؤلفاته في النقد الأدبي والرواية وقضايا الفكر أبرز كتاب الخليج قاطبة غؤارة ومضمونا، لكنه وللأسف لم ينل التكريم اللائق من دولته، ومن يقرأ روايته: ‹ذهب مع النفط› ويتمعن في سطورها وتحطيم المثقف يعرف السبب، ومن يقرأ رواية: ‹أغنية الماء والنار› وراية ‹امرأة› و‹الينابيع› ملحمة الملاحم و‹لحن الشتاء› إلي أخره…
فقدنا عبدالله الذي كان شعلة نضال وبرفقته تعرف إنه صفحة للبياض الأول وإنساناً يجاهد الوقت والنسيان، فلا تنسوه مثلي!… لك الخلد أيها الرفيق الصديق النقي الطاهر.
أن تكتب الأدب في السجن
عند التفكير بالكتابة عن أدب السجون في البحرين، لا يستطيع أحد تجاوز الروائي والمناضل الراحل عبدالله خليفة وآخرين من شعراء وأدباء وأيضاً نحاتون وضعوا بصماتهم على صخور معتقل جزيرة جدا آنذاك.. ما هي ابتكاراتهم لتحقيق هذا المنجز الإبداعي أو ذاك، وكيف يواجهون الأخطار للحفاظ وتأمين ما أنجزوه حتى يخرج من الظلمات إلى النور.. من السجن إلى خارجة بعيداً عن أعيّن الشرطة؟
عبدالله خليفة واحد من هؤلاء، كيف كان يكتب قصصه ورواياته ودراساته النقدية في الأدب والفكر خلف القضبان؟..
على أية ورق يكتب، في حين يمنعه السجان التزوّد بالورق وحتى بدفتر مذكرات، وبأي قلم يكتب والأقلام ممنوعة على المعتقلين وسجناء الرأي والضمير حتى لو كان قلم رصاص طوله أصبع لكتابة خواطره فترة التغييب القسري؟.. كيف كانت تُهرّب هذه الكتابات من داخل السجن إلى خارجه لتطبع على ورق مصقول وتتلاقفها الأيدي سراً خلسة عن الرقيب؟.
من الروايات والقصص التي تمّ تهريبها من السجن إلى خارجه طيلة فترة اعتقال عبدالله خليفة الذي استمرَّ ست سنوات منذ الهجمة على الوطنيين بعد حل المجلس الوطني في العام 1975 حتى أفرج عنه في العام 1980 والتي كُتِبَتْ على رقائق غلاف عُلب السجائر: روايات «اللآلئ» و«القرصان والمدينة» و «الدرويش والذئاب»، وهذه الأخيرة لم تنشر بعد، إضافة إلى قصص قصيرة حوتها فيما بعد مجموعة «الرمل والياسمين».
يروي أحد رفاقه الذين عايشوه حرارة الأوضاع في السجن، كيف كانت المعاناة لتوفير قلم وأوراق، كنا لا نرمي الأكياس ولا عُلب السجائر وننقل قلم «البنسل» ~ قلم الرصاص، والاسم الحركي المتعارف عليه بيننا: «حمبوص» من زنزانة لأخرى عبر مخابئ في حمامات السجن الذي نقضي فيه حاجاتنا، نلتقط الإشارات البعيدة عن أعين الرقيب والشرطة. وأحيانا بمساعدة شرطة متعاونين ومتعاطفين مع مظلوميتنا لتأمين الورق والأقلام للمبدعين ومن بينهم الراحل الرفيق عبدالله خليفة الذي كان غزير الإنتاج الإبداعي، نهم في القراءة، له عالمه الخاص، كتُوم، قليل الكلام كثير العمل والاجتهاد ويطلق النكات أحياناً، يلتقط العابر ليوظفه في رواية أو قصة.
ما أن يتم توفير بعض الأوراق وجمعها من زنزانة وأخرى حتى يقضي عبدالله عليها، وفي اليوم التالي يطلب المزيد وقلم رصاص آخر حتى أطلق عليه لقب أكبر مستهلك في السجن للورق والأقلام، وأي ورق وأي أقلام، الآن فهمنا، كيف استطاع هذا المبدع والمفكر أن ينتج أكثر من خمسين مؤلفاً، بين رواية وقصة قصيرة وكتب نقدية في الأدب وأربعة أجزاء من كتابه الضخم: «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية»، وخلال عام من مرضه العضال لم يتوقف عن الكتابة ولديه 15 رواية لم تطبع بعد إضافة إلى 13 رواية لم ينته من كتابة كامل فصولها و بأحجام مختلفة.
أثناء المقابلات في السجن مع عبدالله خليفة يتقصد شقيقة عيسى بوضع قلم في جيبه الأمامي بشكل لافت ويتربص فرصة مغافلة الرقيب لتهريبه له.
في إحدى المقابلات جلس عيسى في مقابله وجهاً لوجه، بينما والده وشقيقته جلسا على جانبيه، الأيسر والأيمن، كانت عيناه وهو يتحدث إلينا تمعن بحركات تمويهية على القلم وأكاد أرى لعابه يسيل مثل جائع يرى أمامه وجبة دسمة يريد التهامها، يقول عيسى، في ذلك اللقاء حدث شيئاً طريفاً، حيث كان يراقبنا الضابط راشد عبدالرحمن، خرج ثوانٍ لظرف ما لا نعرفه، أغلق الباب وراءه، فقام عبدالله بفتح جورابه ومدَّ رجله أمامي. في إشارة لوضع القلم في فتحة الجوراب، تداركت ببديهية لما كان يريد، فوضعت القلم وكان له ما أراد، أسند ظهره إلى الكرسي وعاد للحديث معنا بارتياح شديد وكأن شيئاً لم يكن.
شقيقه عيسى، لا يزال يتذكر.. كان قلم حبر جاف، ماركة «باركر» من أجود أنواع الماركات آنذاك، وكان ذلك في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي.
كان عبدالله يكتب نصوصه الأدبية ورسائله التي تصلنا بقلم الرصاص، وفيما بعد يستخدم قلم الحبر الجاف، وأدركت من خلال نصوصه الأدبية الجديدة أن عملية تهريب «الباركر» في جورابه بالرجل اليسرى قد نجحت، فها هو يخط بذاك القلم الذي وضعته بيدي في جورابه.. اجتاحتني فرحة كبيرة وتمنيت أن يسقط مطراً لأمشي تحته كي يُبللني.
«تفخيخ» برواية «اللآلئ»
علم رفاق (ع ج س) قرب الإفراج عنه خلال أيام ففكروا كيف يهربون معه رواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص للصحافي إبراهيم بشمي، قال له أحدهم في يوم الإفراج سنهدي لك بنطلوناً من بنطلوناتنا ذات الجودة بدل بنطلونك «الكحيان» هذا، لتقابل أهلك بهندام نظيف، تبادل معهم الابتسامات البريئة دون علمه بخططهم في تهريب «أوراق ممنوعة» من داخل السجن إلى خارجه.
قبل أيام من مقابلة إدارة السجن للإفراج عنه كانوا يخيطون الأوراق الصغيرة في البنطلون الهديّة، رزم من الأوراق، كل فصل من فصول الرواية بجانبه فصل آخر يخاط بإتقان يُبعد الشبهات.
تزامن موعد الإفراج عن (ع ~ ج) مع الانتهاء من «تفخيخ» بنطاله بالنصوص الأدبية، أعطوه رسائل شفوية للقاء شخص ما بالبنطال ذاته كشفرة متفق عليها، وعند وصوله المنزل اكتشف تلغيم بنطاله برواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص بشمي.. فسلم الأمانة إلى أصحابها وكان يضحك على نفسه لعلمه متأخراً عن هدية الإفراج من رفاقه الذين غادرهم إلى فضاء الحرية وهم لازالوا خلف القضبان.
ـ أحمد البوسطة: صحفي من البحرين





