المقالات
اثنتان وثلاثون سنة وأنا أعمل في جريدة «نجمة الصباح». كان مكانها، في البدء، شقة صغيرة وسط السوق. كانت نوافذ الغرف القليلة الضيقة، التي نعمل فيها تسربُ ضجة المارة والباعة، فترتجفُ صيحات المشترين وأبواق الدراجات والسيارات على أوراقنا، يمتلئ المكان بدخان السجائر والعربات وروائح المأكولات الشعبية الساخنة، ويندفعُ إلينا الصغار لحمل الأعداد، أو القراء يفيضون من ينابيع كلامهم.
طاولاتنا المتزاحمة تمتلئ بالأوراق، والصحف، والعرق نجمة الصباح يتصببُ منا، ونحن ثلة من الكتاب تركنا الوظائف وتمترسنا خلف ذلك الخشب المهتز، ندعُ لأقلامنا وحلوقنا فرصَ الصراخ والسخرية والمرارة.
وفي كل لحظة، ينزلُ إلينا رئيس التحرير، راشد العلي ، يتقدمه غليونه المشتعل كقطار، ويحدقُ في وجوهنا وأوراقنا وتتناثر جمله اللطيفة المشجعة الساخرة، ويبثُ أسئلةً كثيفة كأنها إنفجارات ورد، ويعود إلى غرفته الغزيرة الدخان، حيث المحرقة الأكبر للكلمات، وحيث تتصاعد أبخرة المدهوسين والفضائح والغنائم.
وعندما ينفجر العددُ في الشارع، تتصاعدُ القبضات على النوافذ، وتنهمر سيولٌ من المتحدثين والناقمين، ونتماسكُ خلف الطاولات، متشبثين بالأرض خوفاً من هذه الرياح الهائجة. ونشحذُ الأقلام مرة أخرى، ننزفُ من أصابعنا، ونؤجل نومنا، وحلمنا، كنا نسبحُ في بحار من العرق، نجري إلى سيارات الأجرة والباصات، ونأكل السندويتشات الحارقة، المتساقطة اللحم، وندفنُ عيوننا ضاحكين في صفحات الجريدة وهي تنتشرُ أمام أعيننا، محلقة كنسرٍ، نازفة كشهيدٍ، شاشة للطرق البعيدة والصواري المكسورة والأيدي السابحة بجسارة في البحر.
⊛ ⊛ ⊛
كانت الأحذية تدوسُ فوق الأوراق والبقايا. تحدقُ في وجوهنا، باحثة عن مسامير مضيئة، أو وشماً سحرياً، تقلقلُ الطاولات التي تئنُ بضراوة. وتكاد الأحذية أن تدوسَ أقدامنا، لكنها تتكاثف وتنهمرُ فوق باب راشد العلي. نراهُ مخفوراً بوجوه صلدة، ومسدسات لامعة، يبتسمُ إلينا ويسخرُ «ذاهبٌ إلى وجبةٍ خفيفة، هل يريدُ أحدٌ شيئاً؟».
ويعودُ بعد ساعات أو أسابيع، منتفخ الوجه، كدماته الواضحة لها إضاءات زرقاء، وخطوط خده كالكثبان محَّملة بآثار الجنازير الحديدية، و«القبل الضارية» على حدِ تعبيره.
لكن «السموم» الساخن ينطفئ بزجاجات الشراب الباردة، والضحكات، واشتعالات السجائر ورسائل القراء والمكالمات ذات الأجنحة الملائكية، وسيارة العلي التي تحملنا إلى شاطئ البحر، أو إلى بركة أحد أصدقائه، حيث ننقعُ في المياه الباردة الزجاجات المحلقة، ونسحبُ خيوطَ الفجر، ونضع الشمسَ على مسرح الأفق شاهدة على الفرح والرفقة الحلوة.
أي سعادة خضتنا ونحن نرى راشد العلي يلتهمُ ساعدَ عروسه، ويغوصُ في بحرٍ من الياسمين ورذاذ الفضة ووهج الغناء العارم القادم من الطبالات المتوهجات الصوت الصادحات؟
أي جمهور كثيف، الذي اختلط رجاله ونساؤه، في نهر الزغاريد والحلوى والهدايا، وأوقد النجمات في الأعالي وفرش الأرضَ بالسجاد واحتضن الليل؟
ضاع أهلهُ وسط الحشد الطالع من الزوايا البعيدة، وتداخلت الشكاوى بانفجارات البيرة والعرائضُ بالقبل المسروقة الحارة والعيون الفاحصة بالرقص المجنون..
لكن لم يدعني راشد مستريحاً في إجازة شهر عسله. رشاتُ التليفون تنهمرُ على وجهي كل ساعة. أسئلة مخيفة واهتمامات غريبة وزوايا يفجرها في كلِ يوم. وبدا أنه مصدر الأخبار في نزهته القصية وأنا الأصم في زفة المدينة.
كيف يستطيع أن يوفق بين هذه الاهتمامات النارية وبرودة ملكة الثلج والجمال التي اختارها عروسه؟ تلك الشامخة، المرفهة، المترفعة، التي تأتي إلينا بسيارتها الفخمة وهي في أبهة ملكة؟
كنتُ أنتظ أن تهتز الأسلاك برعشات مختلفة، وأن يتسلل بردهُ إلى قيظنا، لكن راشد أيقظني من نومي مرات عديدة، وأنزلني إلى الشوارع الملتهبة، وجعلني أهذي في نومي مننتظراً كوارثه الجديدة..
⊛ ⊛ ⊛
حين غادرنا شقتنا الصغيرة وسط السوق كدنا نبكي، وحين خلت غرفها من طاولاتنا وكتبنا وأقلامنا، وتناثرت الأوراقُ الصغيرة المقطعة، والمسودات المنهوشة، تجمعنا في كورسِ نحيبٍ داخلي فاجع.
البناية الجديدة كبيرة، مكونة من عدة طوابق. مبنى الجريدة يحتلُ طابقاً كاملاً، والغرفُ الواسعة تصلحُ للمباريات الرياضية. ووجوه الزملاء الكثيرة تناثرت وراء الجدران والسكرتيرات والمواعيد.
البناية تناهت إلى البرية، وحيدة في خلائها الغريب الموحش. ثمة طيور رمادية تضحكُ في السماء ثم تحترقُ في الظهيرة.
كانت قلعة من البرودة والأزرة وسط أرضٍ مشتعلة شوكية. لكن دخول راشد يضفي على المومياءات الطينية بهجة الربيع. لم تحجزه السيارة الفخمة، ولا الفيلا، ولا السمنة الضارية في إخفاء عظامه القديمة.
يهزُ الأبوابَ وينثر الكلمات وغليونهُ لا يزال يطلقُ صفيراً ينبئُ بعدم الوصول إلى المحطة النهائية. يبدأُ عرشُ الصمت يهتزُ، وتتراكضُ السيقان لاهثة وراء الدمار والدخان، وتبدأ أسلاكُ الهاتف في قطعِ مغازلات السكرتيرات، لشحن الفحم المشتعل في الأحياء، وجلب الأيدي المتناثرة على الجبال والوديان، والجثث المقتولة الكثيرة – خطأً – في المستشفيات، وتتحول الثلاجة الثاوية في البرية إلى فرن المنيوم يُــغذى بالعظام.
كان العلي يقودُ ابنه الآن. كان سامر قطعة من القمر، وحلوى متنقلة، لكنه لا يتكلم، لا يضحك، لا يصرخ كالأطفال، يمشي وراء أبيه كالظل المقطوع، ويبكي إذا كلمه أحدٌ، ولذا لم يكن أحد يلمس تلك المزهرية الشفافة.
في غمرة عرقنا وانتفاضات عروقنا كان سامر يكبر. كانت النظارات تتضخم، والذبحات الصدرية وانفجارات الأحلام تغتالُ وجوهاً عزيزة دوماً.
وامتلأ أبو سامر بالشحم، ولم يعد قادراً على صعود السلالم. رُكــّب له مصعدٌ خاصٌ إلى مكتبه. لم نعد نرى الغليون الزاخر بالدخان، والقهقهات الفاقعة بالأسئلة المثيرة الغريبة، كان صوته يأتي هادئاً ناعماً من وراء الأسلاك.
وأرمقه حائراً، خائفاً، منزعجاً. لماذا تنامُ الأوراقُ لديه الآن؟ لماذا تظهر أبوابٌ غريبةٌ تمتلئ بوجوهِ الراقصات؟ لماذا أصبحت العناوين تتكسرُ بمطارق ثقيلة وأبو سامر لم يعد لديه وقت لنا؟! لياليه متناثرة في البساتين والقصور والشقق الغامضة. ماذا حدث؟
أقولُ له كلَ أسئلتي المزعجة. أذكره بالسندويتشات التي كنا نتقاسمها في شقة السوق، والشاي الأحمر الثقيل الذي كان يصنعه لنا بنفسه. فيدعني أصنعُ ما أريد. اندفع مع جوقة حافلة بالغناء البحري العتيق. يحذرنا مرة. يصرخُ فينا مرة أخرى، لكنه يتغاضى، يتسعُ صدره لكل السهام والأسئلة المخيفة، يضحكُ علينا..
كان صوتُ زوجته يلعلعُ أحياناً من وراء خطوط الأسلاك فتتغير الخرائط في المكاتب والكلمات. أما ابنه فقد كبر، يأت يمتأنقاً، يسيرُ كفتاةٍ حلوة. لكنه لا يكلم أحداً، ولا يقترب إلا من أبيه.
آخر مرة أبحثُ عنه في كل مكان. أين العلي أمام هذه الخبر المريع؟ أين التقطه؟ وجدوه لي في بستان ما. سمعتُ رقصاً وطبلاً وتأوهات فظيعة. ثم جاءت صلصلة كؤوس ومضغ لبان. انشق التليفون الأسود عن صوته، مضطرباً، يتعتعه سكرٌ مخيف. لم يعرفني، ثم استدرك متفاوتاً، ثم قطع الخط .
⊛ ⊛ ⊛
كانت جنازته فخمة وغريبة وكئيبة. امتلأت الساحة التي تشرف على المقبرة بالسيارات الكاديلاك السوداء والمرسيدسات الملونة. وجاء علية القوم بعباءاتهم الكحلية والسوداء وثيابهم الناصعة البياض.
وقف جمهورٌ بعيد، تبعدهُ عصي الشرطة وغابة الحديد الملون. لم يستطيعوا أن يلقوا عليه نظرة أخيرة. علية القوم صلوا بسرعة شديدة، واختفت سياراتهم في لمحِ أبيه.
كان سامر غارقاً في عباءته الفضفاضة وعرقه الممطر. لم يكن حزيناً كثيراً، بل مرتبكاً ومتفجراً.
⊛ ⊛ ⊛
عندما جاء إلى الجريدة استخدم مصعدَ أبيه. لم يره أحد، ولم يتكلم مع أحد. جاءتنا أوامره عبر الأسلاك والسعاة والكوابيس. حدثت هزة في المبنى.
عدتُ وحيداً إلى البيت. منذ زمنٍ بعيد لم أتأمل غرفتي وكتبي هكذا. الأيام تمرُ ببطءٍ، والأوراق التي صنعتها صارت ثعابين تلتفُ حولي. أكره أن أرى سطورها. صورها المبتذلة تفسدُ شاي الصباح. كلماتها المقززة خفافيش وقنافذ تتعاركُ في غرفة نومي. أين روحي؟ أضربُ رأسي في الحلم فلا أتألم. أحاولُ أن أنام. سأنام. حتماً سأنام. لكن الفراش مبللٌ بمطرِ جسدي. تليفونات الزملاء والقراء وحدها التي تنعشني. دشٌ ليلي في يومٍ قائظ . لكنني لا أنام. لا بد أن أذهب إلى هناك وأنتزع ذلك المقعد منه! من هو؟ من يعرفه؟ كلُ الحروفِ التي مرتْ على سكة آلامها كانت تمرُ على ضلوعي. كانت طيورها تقتات من دمِ قلبي. وأنا الآن وحيد في بيت كئيب، لم أهتم به يوماً، وعصرتُ جلدي هناك. تنفجرُ روحي من السعادة وأنا أشمُ عرقَ الكلمات وهي تصعد من الورق. أضمُ السواعد والصورَ والضحكات وأطيرُ بها في سماء ملبدةٍ بالنسور الوحشية. كلُ يومٍ أزداد لها حباً وهي ورقٌ ربيعي يتطايرُ فضاء الأرض. أموتُ الآن.. لا أستطيعُ أن أنام. لم تنفعْ الأقراصُ وأدوية الطبيب وثرثرته قربي. سأقتلهُ! سأتعلم استخدام المسدس. لن ينجو مني. قتلني وسوف أقتله.
وأراني أدخلُ في عتمة مشتعلة بفضةٍ، وثمة أصواتٌ مبهمة، متصادمة، كشرائط تلتصقُ ورائي، وأنا أمسكُ بندقية ضخمة، وأسير بسرعةٍ بطيئةٍ طويلةٍ، والحراسُ يتساقطون تحت قدمي، أكسر البوابة الكبيرة، وأراه هناك جاثماً في عرشه البعيد، يقهقه، وأنا أطلقُ بخاراً وأصواتاً، ولكنه بعيد يفتحُ فمه على اتساع شاشة سينما ولا يصدرُ صوتاً، وأطلق وأهوى إلى فراغ من العرق والفراش الرمضاء.
أنهض وأرى المدينة تصحو على صوتِ الديكة وأصوات الجرائد. لو أمسكتها الآن لأصبتُ بنوبةٍ قلبية.
⊛ ⊛ ⊛
لم يبق إلا أن أحملَ مسدسي وأذهب إليه. أوقفتُ السيارة في ممرٍ جانبي. الليلُ مشحونٌ بضجةِ الجنادب. نداءاتها الصارخة تستفزُ أعصابي. كيف سأطلق؟ وعلى من…؟
ها هو البستان الذي طالما ضيفنا فيه مفكرين وقادةً، وصدحت فيه الأشعارُ وأغاني البحارة الصلبة. هنا كنا نوقفُ سياراتنا، وتمتلئ الممراتُ المزهرة المعشوشبة بضحكاتها وحوارنا المحموم.
ثمة أصواتٌ لطبل مائع، وتصفيق غريب، وجاءت ضحكاتُ غنجٍ وكلمات موحلة. استندتُ إلى شجرة. وقفزَ قلبي صائحاً: ما هذا؟ سوف أزيحُ الأغصانَ والأوراقَ لأرى كيف يجلبُ العاهرات إلى هذا المحفل المقدس.
خلال ثغرات الورق رأيت أشباحاً رجالية. لا يبدو أن ثمة امرأة. لكن هذه الأصوات المائعة.. لمن؟
تركتُ الاختباء، دستُ على الورق الأصفر الصارخ، حدقتُ برعبٍ.
كان سامر يلبس بدلة رقص أنثوية، يهتزُ وسط حلقةٍ من مضاغ اللبان المصفقين بتمايل، وهو ينحني ويقتربُ من أفواههم وأيديهم، ويغني..
لا أعرفُ ماذا أصابني. كان المسدسُ يشتعلُ في يدي. وكنتُ أطلقُ بجنونٍ وهذيان وصراخ، وأودُ أن أصحو من النوم والكابوس، لكن المرئيات الصلدة كانت تتفجر أمام عيني مثل الدم.
——————————-
5 – دهشة الساحر «قصص»، 1997.
❖ القصص: «طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء –الجبل البعيد– الأحفاد – نجمة الصباح».






