كتب: زكريا رضي
توطئة وتمهيد
ربما علينا البدء من إشكالية مثارة في حقل السرديات ، والنقد الروائي ، إذ أن هذه الإشكالية تمس بشكل جوهري رواية عبدالله خليفة ( عمر بن الخطاب شهيدا ) وهي تتلخص في مدى القدرة على تجاوز ما تصفه هذه الورقة بالشخص النموذج ، أو الشخصية المرجعيّة كما هي في حقل النقد السردي ، وإعادة تمثلها وتخليقها روائيا وإبداعيا .
أين هي المشكلة ؟؟؟ فجأة سيكتشف الناقد لا السارد أن الشخصية المرجعية هي نموذج معدّ سلفا وقالب جاهز ، مرسومة له الحدود ، والفواصل والرسوم ، ما بدوره سيخلق نوعا من الحد الذي لا يمكن تجاوزه ، أي أن يكون النص رهن مرجعيتها لا العكس .
حينها فأنت أمام شخص نموذجي لا أمام شخصية ، أي أن الشخصية لا يمكن تخليقها روائيا إذ هي فوق النص وهي التي ستحكم إيقاعه وحركته ضمن المسار السردي العام .
سيكون القاريء غالبا أمام هذا النموذج ، حينما تكون الشخصية دينية مقدسة ، نبيٌ كان ، أم إمامٌ أو ولي من أولياء الرب الصالحين .
فارق التجاوز بين الشخص النموذج والشخصية الروائية سيبقى شاسعا ما بدوره سيوقع المؤلف في كمين لا يمكنه التملص منه . إلا بكسر النموذج ذاته وتذويبه وتحويله من شخصه إلى شخصيته المخلّقة إبداعيا ، وهو ما يتطلب ربما شيئا من كسر ( تابو ) مجتمعي وعقيدي قد يورد صاحبه المهالك .
ليس هذا الاستنتاج مدعاة لوقف تسريد التاريخ أو استعادة إنتاجه روائيا ، بقدر ما هو توصيف لمشكل إبداعي يدور مع أنموذج البطل الديني أو المقدّس حيثما دار .
في الشخصية المرجعية أنت أمام تسلّط من نوع خاص ، تمارس فيه الشخصية سلطتها على النص والمؤلف معا بقدر ٍلا يسمح له بالتجاوز ، إذ تغدو هي معيار الرؤية ، أو جهة النظر، أو بما يصطلح عليه نقديّا بالتبئير ، فتحتضن رؤية المؤلف / الكاتب ، وتوجّهه وتهيمن عليه ، بما تحمله من مناقب ومآثر جمّة وتواضع ٍ عال ٍ ، وتسامح ، وبما تقترب فيه من مثاليّة عالية وإنسانية مرهفة .
فيلتبس عليك الأمر والحالة هذه ؟؟ هل ما تقرؤه رؤية الكاتب أم رؤية الشخصيّة ذاتها ؟؟؟
التبادر للإجابة على سؤال على هذا المنوال ، يحيل النظر إلى مدارس النقد السردي الحديث التي جعلته من الأسئلة المحورية في نقد النصوص السردية ، إذ أضحى السؤال من هي الشخصية التي توجه الكاتب ، وبالتالي توجه المنظور السردي عامة ، عوضا عن السؤال التقليدي الذي كان يبحث عمن هو السّارد ( الراوي ) ؟؟؟ هنا أنت أمام نموذجين ، نموذج يرى ويُعاين ويشخّص ويتنبّأ، في مقابل نموذج يحكي ويقول ويروي .
عبدالله خليفة رواية عمر بن الخطاب شهيدا
لعبداللة خليفة ولعبة النص :
لكي لا نغرق كثيرا في التنظير ، فإن مسك أطراف اللعبة النصية في رواية خليفة عمر بن الخطاب شهيدا ، من الأهمية بمكان ، إذ سرعان ما ستكتشف كيف أن الشخصية المرجعية ( شخصية الخليفة عمر ) أملت على الكاتب شروطها ، فما عاد بمقدوره إلا أن يتعاطف معها وينحاز إليها ، وهو بالطبع أمر مشروع لرؤيته ككاتب ، إلا أن سلبيته الفنية لا الواقعية أو التاريخية ، انعكست في تحريكه لباقي الشخوص ، الذين سيأتي الحديث عليهم تباعا . فكان من السهل تحطيم (النموذج الشخصي ) للشخوص الموازية والفاعلة في النص ، وجعلها ضمن رغباتها الإنسانية العامة ، التي تنتاب أي إنسان في موقف عابر ، أو ضمن نسق العلاقات الاجتماعية السائدة . فكان يسهل عليك أن ترى تورط تلك الشخوص في الإعلان عن رغباتها الخاصة ، كالرغبة في التملك والاستحواذ ، أو الأثرة والأنانية وحب الذات ، أو الحسد ، أو التآمر لإزاحة الآخرين من الطريق في سبيل البقاء ، أو عشق المرأة وفتنتها ولو على حساب النظام الأخلاقي السائد ، كل ذلك يدفعك للتساؤل عما هو السبب الذي دفع بالكاتب إلى أن يخلي العنان لتلك الشخوص الموازية من أن تفصح عن رغباتها الكامنة ، فيما آثر أن يقيدها في الشخصية المرجعية النموذجية ، شخصية عمر بن الخطاب ؟؟؟
مسارات الشخصية وانكساراتها :
تحركت الرواية أربع مسارات رئيسية ، ظلت تحكم إيقاع الأحداث ، وتحريك الشخوص ، ويمكن إجمال هذه المسارات الأربع في الآتي :
■ المسار الأول هو مسار الشخصية المرجعية ذاتها وهي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب .
■ المسار الثاني هو شخصية خالد بن الوليد التي احتلت جزءا كبيرا من مساحة النص ، وكانت إحدى الفواعل السردية التي نظمت أحداث الرواية
■ المسار الثالث هو مسار الفرس ويمثلهم يزدجرد ملك الفرس ، ورستم قائد الجيوش والهرمزان نائب رستم .
■ المسار الرابع وهو بمثابة الطابور الخامس ، وخط له الكاتب مسارا مقلقا وغامضا نوعا ما وهو يضم لفيفا من الأمويين والقرشيين ويمثلهم أبو سفيان بن حرب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، والمغيرة بن شعبة والي الكوفة في عهد عمر ، ثم انضم إليهم في تحالف خفي لاحقا الهرمزان نفسه ، وأبو لؤلؤة المجوسي ، والخادم جفينة .
استعارة من منجزات النقد الفرنسي المحدث وتحديدا من مدرسة ( جيرار جينيت ) فإن رواية عمر بن الخطاب شهيدا تقع في في نطاق ما وصفه بالمحكي ذي التبئير المتنوع ، أو الراوي المصاحب ، وخلاصته أن السرد يبدأ على لسان شخصية أولى ثم ينتقل بعدها لشخصية أخرى قبل أن يعود من جديد ليركز على الشخصية الأولى .
لم يمكن الراوي تلك المسارات الأربع لشخصياته من أن تتنامى تدرجيا عبر مسارتها حتى تصل إلى مرحلة الكشف الكامل ، إما على يد الراوي نفسه أو على يد القاريء . إذ أنه سلم مفاتيح شخصياته للقاريء منذ أول بروز الشخصية على سطح الحدث .
مما قد يخل بعنصر المفاجأة والمباغتة ، أو يحد من قدرة القاريء على التنبؤ والوقوف عند أمثلة يسيرة من الرواية تصلح لأن تكون شاهدا :
« … دُفن الخليفة ، الحاكم الصديق الحبيب ، وبقيتَ أنتَ تــُمسك الجمر .هذه بلادٌ مثخنةٌ بالجراح ، فقيرةٌ ، معوزةٌ ، تتدثرُ بالشمس المحرقة ، وترقدُ على التراب ، تقلبْ ! فلن تجدَ عيناك طريقاً نحو النوم ، وهي ترقدُ على جمرٍ ، وتسخنُ الرمضاءُ جفونها . .
أي فخٍ هائل هذا الذي يطبقُ على ضلوعك الآن … تقلبْ وأنت تفكرُ في كيف تحول هذه الحشودَ إلى حرابٍ ، قد تتغلغلُ في لحمِ بشرٍ مساكين ، أو توزع الثمرَ على الجياع » .
النص كما هو واضح ، يفتح الشخصية من أول الباب على مناقبية عالية ، ويرفع سقفها إلى درجة لا تمكنك من النزول إلى ما هو أدنى ، كما أنه يكشف عن ( جهة النظر ) التي اختارها الكاتب لشخصيته منذ البداية ، فالقلق ، والتقلب ، وعدم النوم ، والرقود على الجمر ، والاحساس بثخن الجروح ، وتوزيع الثمر على الجياع ، كلها تخط مسار الشخصية المرجعية باتجاه محدد تكون فيه الشخصية ذائبة في المجموع ، مستشعرة لآلام الآخرين ما لعله يمنع من الزج بها في صراع أو مزاحمة لغيرها من الشخصيات ما سوف يحدث إنقلابا في مسارها وفي صفاتها .
في مقابل ذلك فإن الشخصية المحورية ، شخصية خالد بن الوليد ، ستظهر منذ أول ولادة لها في منولوج داخلي على لسان الخليفة عمر نفسه ، فكشفت خارطة خالد الشخصية منذ البداية ، على لسان عمر ذاته ، وبما أن الكاتب كما أوضحت الورقة قد اختار الرؤية المصاحبة ، فالنص سيكشف عن رؤيتين متناغمتين ، الأولى هي رؤية الكاتب نفسه لخالد ، والثانية هي رؤية الخليفة عمر بن الخطاب لخالد . النص الشاهد هو الآتي : «هيا كفْ يا عمر عن هذا الحسدِ لابن عمك ، أصعدْ عن هذه المشاحنات . . لا والله ! لم أحسدهُ أبداً على عملٍ نبيل يقومُ به ، بل لهذه الخيلاء التي فيه ، وهذا الغياب للأخلاق المثلى ولهذا الحب للصغائر والعلو الشخصي . . يا ليته ألغى هذه التفاهات من نفسه الكبيرة ! . . ».
… رؤية الشخصية المرجعية ، ورؤية الكاتب تتوازيان في النظر لشخصية خالد بن الوليد وتمعن في تشخيصه على أنه قد استبدت به الأنا ، فهو كما جاء في الرواية « فهو ذكي وماهر ولكنه أناني . . لا يملك مسحةً من أخلاق رفيعة ، والجمهورُ لا يرى ما هو واضح جليّ ، كل انتصار يرفعه أكثر فأكثر فوق الرؤوس والقيم !».
كشف الكاتب عن رؤيته لخالد منذ البداية مثلما صنع بشخصية الخليفة عمر ، مما سيعيطك مسارا لشخصية خالد ، ستبقى تدور في هذه الدائرة حتى لحظة الانتكاس أو الانكسار والتي بدأت تاريخيا في قرار الخليفة عمر بعزل خالد وتولية أبي عبيدة بن الجراح عام 17 للهجرة .
المسار المقلق والغامض والغريب ، والذي ربما كان أحد اسباب التحفظ على النص هو مسار الأمويين والذي مثله في الرواية كل من مروان بن الحكم ، وأبوسفيان بن حرب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، فغالبا ما تظهر تلكم الشخصيات مجتمعة وتتجنب الإنفراد ، وهي لا تتكلم إلا بروح واحدة وبصوت واحد ، وهي تفكر بعقل جمعي بدا واضحا أن الكاتب يبرره تبريرا طبقيا ، فانتماء الأمويين القبلي وعلو مكانتهم الاجتماعية على غيرهم كونهم من السادة والأشراف جعلتهم ينظرون إلى التغيرات التي طالتها يد الخليفة عمربن الخطاب وسحب الامتيازات من بعضهم ومحاسبة الولاة الشديدة على أعمالهم وجهها منظور الكاتب باتجاه مصلحة البقاء لللأقوى شوكة وعدة .
هنا يتدخل المؤلف ليوجه مسار شخصياته ، وينشيء علاقاتها ببعضها البعض ، ويوغل قليلا في اجتهاد سردي خاص ليقيم علاقة سرية تجمع بين الفرس وبين الأمويين لا سيما مع الهرمزان في وقت لاحق ، واجتماعات بليل ، ما لعله بحاجة إلى سند تاريخي واضح يعضّد هذا الفهم أو هذا التركيب ، الذي اختاره المؤلف .
بقي أن مسار الرواية في تخليق الشخصيات سرديا ، وتركيبها كان أكثر إبداعا وتفردا في مسار ( الفرس ) وبالأخص في شخصيتين اثنتين هما ( رستم ) قائد الفرس العسكري ، و ( الهرمزان ) .
كانت الشخصيتين بالفعل مركبتين غاية التركيب ، تحب وتبغض في نفس الآن . تحمل الشيء وضده . تارة تراها إنسان وتارة شيطان . وبقيت مخلصتين لعرقهما وحضارتها الفارسية حتى آخر رمق . وبقي الإحساس بمرارة الإنكسار والهزيمة ، وشرخ الذات بعد انهيار المدائن وفرار كسرى عاملا محفزا على استعادة المعوض النفسي والرجوع لملك فارس الذي صارت حلي قادته ألعوبة في يد صبيان العرب .
كان هذا المسار الفارسي أقرب منه إلى الطابع الملحمي لمن يقرأ النص . واعتمد الراوي فيه على لغة وصفية عالية شديدة التشخيص ، والتخييل فتقرأ وكأنك ترى ، وتخال وكأنن تعاين ولنختم بهذا النص الذي يصور فيه الكاتب ملحمة القادسية وقت احتدام الجيشين :
« … نظر الهرمزان بارتياحٍ إلى عبور حشد فرسانه نهرَ دجلة وهي تتقدم وراء كتلةٍ هائلة من الجنود المشاة والأفيال الضخمة ، فكأن درعاً هائلاً من اللحم يحميه .
الرجالُ والخيول يتأرجحون فوق الجسور ولكن الغابة البشرية تتمدد فوق الماء وتتنفس هواءً وكلاماً وحمحمةً ، وسحابة الحديد اللامعة المصقولة تتوغلُ في اللحمِ والثياب والهواء والأعناق ، والأفيالُ جبالٌ تمشي فوق الجثث والصراخ وتدوسُ الخيلَ وتمشي بين كتلِ الأجساد ، تقذفُ بها في أعماقِ النهر ، وتكوّنُ ثغرةً هائلةً في جسد الجيش العربي المذعور ، وتنزلُ السيوفُ كالصواعقِ الناريةِ على العظام ، تكسرُها فيسمعُ لها دويٌ عظيم ، وتنفرجُ صفوفُ المقاتلين العرب ويتراجعون للوراء (… )
والكتلُ المتراصةُ والسيوف تتضارب منذ الصباح حتى هذه الظهيرة الكالحة ، وأسنان الحديد تتوغلُ في الرؤوس والأعناق ، والأجساد تتطوح هنا وهناك ، ولم تزل الصفوف في مواقعها ، وكلما سقط جسدٌ ظهر جسدٌ آخر مكانه ، وكلما نفقتْ خيلٌ جاءت أختها ، وبحرُ العرب البشري لا يتوقف عن التدفق ، أمواجهُ من الرمال والرؤوس والكوابيس ، أجسادُ المقاتلين الرهيفة النحيفة تهرب من حدود السيوف ، تراوغ بمهارة ، وتندفع بقوة ، وكلُ الحشود التي تتدفقُ عليها لا تخيفها ولا تزحزحها عن مواقعها ، وقد بدأت الشمسُ تميلُ للغروب ، والجوع أكل الرجال ، وهدهم التعب ، والعدو لا يتوقف عن التدفق ، كأن الرمالَ من ورائهم ، وثمة صيحاتٌ من ورائهم ، وثللهم القليلة تنبع ثللاً أخرى منها ، كأن التلال انحازت لهم ، وهم يصرخون تأبى أن تفارق مواقعها ، والأنصالُ تغوصُ في الأجساد ، وبحرُ البشر متلاطم ، يذبح بعضه البعض ، والأفيالُ تتحسسُ طرقَها الملأى بالعظام ، وصائحٌ يصيحُ من الفرس :
– هل نتوقف للراحة والنوم ؟ !».
شكرا لإصغائكم
🌴 أعدها : زكريا رضي
ورقة نقدية مقدمة ضمن برنامج ( خير جليس ) لأسرة الأدباء والكتاب بالبحرين (يونية – 2007 )
تعقيب من الروائي عبدالله خليفة
قضايا الرواية التاريخية
أُقيمت في مقر أسرة الأدباء والكتاب ندوة حول روايتي (رأس الحسين) و(عمر بن الخطاب شهيداً)، وقد تحدث فيها كلٌ من الأخوين الشاعر والناقد كريم رضي والباحث زكريا رضي.
والواقع أن يظهر ناقدان نشطان في الكتابة الأدبية لجنس الرواية خاصة، هو أمرٌ عادي ولكن للأخوين وخاصة كريم مساهمات عديدة في الكتابة، وهو شاعر وصحفي ونقابي كذلك، فجمع الحب والتعب من أطرافهما. وقد تعجبتُ من زكريا رضي الشاب الصغير السن، الكبير العقل، فرأيتُ فيه مشروع ناقد جيد، يمتلكُ حس الموضوعية والغوص في المادة الفنية وبجذورها التاريخية الصعبة، فقلتُ إن البحرين ولادة!
في كتابة كريم هواجسٌ معقدة مركبة، لم يفكك كلَ خيوطها بعد، فالروايتان (رأس الحسين) و(عمر بن الخطاب) تجمعان الكلَ الإسلامي المتضاد، الشيعة والسنة، في عالميهما المتباينين، فهذا شيءٌ وذاك شيءٌ آخر، في تاريخ الانفصال والشكوك، لا في تاريخ النضال المشترك.
فحين نجمعُ بينهما كأننا نمثل سيرورة جديدة، ولكن الحذر يتزايدُ حين يكون الكاتبُ من أفقٍ يتراءى في الوعي السائد السطحي، أن يكون مختلفاً، وأن يكون في الخارج، فكيف يكونُ في الداخل المتعدد والمتباين؟!
ولهذا بدت كلمات كريم رضي في قراءته لرواية(رأس الحسين) محملة بأعباء السابق، وبمنظورات تكبسُ على قلمه، لكنه لا يبوحُ بها، فتتراءى في هذه الحيرة التي تجسدتْ في الأكثار من المقدمات، فتكلم عن الرواية التاريخية عند جورجي زيدان، وهي رواية لا تـُعد أساساً من الرواية التاريخية المتماسكة، بسبب أنها رواية تعليمية فهم جورجي زيدان أن ينشر معلومات عن التاريخ عبر قصة حب مخترعة، والبناءُ كله مهلهل.
ثم حين يأتي كريم للرواية نفسها، وهي بيت القصيد، فإنه يدخل كذلك في هذا التردد، فهو يقول بأن الرواية كــُثر فيها الشعر، فأعاق الشعرُ السردَ الروائي.
ولكن هناك فرق بين أن يُكتبَ السردَ بلغةٍ ذات بيان تصويري خاص، وبين الشعر، فالبيان التصويري من هدفهِ عدم تحول الرواية الاجتماعية السياسية إلى منشورات ولغة خطابية تقتل الفن، وبالتالي فلا بد أن يكونَ لسرد الرواية طبيعية خاصة، تضعها في ميدان الجمال لا في ميدان الصحافة!
وهو بعد ذلك يشير إلى جوانب إيجابية هي تعددية الشخوص والمحاور، وهذا في الواقع كان القسم الذي يمثل صميم النقد، لا في عرضه الإيجابي، بل في روحهِ التحليلية، بمعنى أن التركيز على هذا الجانب ومتابعة كشفه وتبيان مدى نموذجية ومعقولية الشخوص وعلاقاتها وتماسك أو تفكك الحبكة ومستوياتها هي الأمور التي تجعل من الكتابة نقداً روائياً.
ولكن الشاعر كريم تدفعه عوامل الاحتفاء والاهتمام بهذا الكتاب، ولا يريد كذلك أن ينساق في المجاملات، فيعرض ما يراه ويتلمسه، ويكفيه ذلك دوراً جميلاً فهو ليس روائياً أو ناقداً متخصصاً في الرواية، لكنه لا يريد كذلك أن يسكت عن القمع الثقافي.
ولكن أخاه زكريا رضي كان أقرب للناقد المتخصص في الرواية، وقد قرأ لا كتاب الرواية بل الديسكات، فعانى في ذلك، ولكن لأنه دخل للرواية من باب النقد الروائي، فقد ركز على الشخوص ومن هو البؤرة فيها، الذي كان هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكشف العلاقات بين بؤرة الرواية، وبين السارد المؤلف، وبين الشخصيات الرئيسية الأخرى كالشخوص الفارسية مثل الملك يزدجرد والقائد رستم والهرمزان، وخالد بن الوليد الخ.. وقد بين لغة السرد والعلاقات بين الشخوص، ومدى مرجعية هذه الشخوص التاريخية والإشكاليات المترتبة على تصويرها، كتصوير خالد بن الوليد، واعتبار أن النص انساق لمرجعية عمر بن الخطاب وتماهى معه.
وهكذا فإن زكريا توجه لصلب مسائل الرواية، معتبراً أن تبعية السارد لمرجعية الشخصية الرئيسية(عمر) لا يؤدي إلى جديد، ومن جهة أخرى احتفى الراصد بتصوير الرواية لمناخات الحرب في الجبهة الفارسية عبر سرد مقاطع من معركة القادسية.
إن ندوة أسرة الأدباء والكتاب التي تحدث فيها الكاتبان كريم رضي وزكريا رضي عن روايتي (رأس الحسين) و(عمر بن الخطاب شهيداً)، هي من الندوات النادرة التي توجهت للرواية التاريخية في البلد.
وربما سيطر التاريخ أكثر من غيره على الرواية في البحرين، فأغلب الروايات تتحدث عن التاريخ البحريني الحديث، وبضع روايات تجسد وتصور التاريخ العربي القديم.
في حين توجهت روايات قليلة إلى الزمن الراهن، ربما تجنباً للأحراج، وهذا يعكس سيطرة الماضي على الحياة، مما يستدعي تحليله، أو يغدو التاريخ عباءة لنقد الحاضر من خلال الماضي!
لكن الرواية التاريخية رواية ذات مقاييس خاصة صعبة، فالرواية المعاصرة، وهي النمط الثاني من الرواية، أكثر سهولة، ثم تأتي الرواية العلمية وهي النمط الثالث والأخير.
وتغدو الرواية التاريخية صعبة لأنها لا تفترضُ فقط السيطرة على أدوات الفن من شخوص وحبكة وزمان ومكان روائيين، بل تفترضُ كذلك درسَ التاريخ، ومعرفة الوسط والملابس والمأكولات والنباتات فيه، إضافة لدراسة الزمن الخاص وظروفه وشخوصه، فتعرف متى أكل الناس الأرز في المنطقة، وكيف كانت تصوراتهم عن الإله والحكم الخ…
وتزداد الصعوبة حين تعرض الشخصيات المبجلة في التاريخ الخاص بكل دين ومذهب، ولكن الأهم من هذا العرض التنزيهي أن تــُكتب الرواية بموضوعية، لكن الموضوعية صعبة في ميدان التاريخ والعلوم الإنسانية عموماً، فما يُقيم بإيجابية في دين يقيم بسلبية في دين آخر!
وإضافة لهذه الشروط القاسية فيُفترض في الرواية عموماً أن تكون ممتعة، وأن تجعل القارئ، أي قارئ، يتمسك بدفتي الكتاب لا أن ينام منذ الصحفات الأولى.
ومن هنا فإن الدخول في بؤر التاريخ الإسلامي، كان نادراً من الناحية الروائية، إلا من أعمال نادرة لم تحدث تراكماً في مثل هذا الحقل، لأن الرؤى المذهبية السياسية كانت مسيطرة، ولا تزال، وهي لا ترى ما يجمع المسلمين، في تلك العملية التاريخية التأسيسية، التي كانت بشكل ثورة، فغدت الثورة في زمن عمر هي الدولة الشعبية القوية، وغدت أيام عثمان بن عفان في مرحة اهتزاز وتغلغل من قبل الارستقراطية التي أُزيحت عن الحكم، ثم غدت الثورة في زمن علي بن أبي طالب في مرحلة دفاع عن نفسها والتصدي للهجوم عليها من قبل العامة الفوضويين والارستقراطية الأنانية معاً.
وهذا الفهم حين يُصَّور روائياً فلا بد أن يكون موضوعياً وأميناً للفترة، وأن يعدم تزييف الحقائق، وهذه كلها أمورٌ تخترق التصورات الذاتية والمؤدلجة للتاريخ، ويغدو الوصول إلى هذا المستوى وتجسيده روائياً من الجوانب الأكثرصعوبة، فكأنك تضع التاريخ المختلف عليه كثيراً في بلورة صافية.
لا بد هنا من العودة للمراجع التاريخية ومصادر درس الرواية التاريخية معاً، فرواية التاريخ ليست تابعة له بل تنقله إلى مرحلة كشفية وتتغلغل إلى جذوره في عرض فني مشوق، وهذا ما جسده والتر سكوت البريطاني في أعماله، وتولستوي في ملاحمه
ولهذا فإن قراءة الدارسين البحرينيين للرواية التاريخية خاصة لا بد أن تقف على أرض نظرية صلبة في فهم الرواية وفهم التاريخ الإسلامي معاً.
🌴 كتب: عبدالله خليفة
- قمرٌ فوق دمشق
- قراءة في أعمال الأديب عبدالله خليفة
- قصص من دلمون
- كريستين هانا
- المكانُ في روايات عبد الله خليفة دراسة تحليليّة لنماذجَ مُختارة
- عبدالله خليفة: الرؤية الفكرية والفنية لأدبه







