كتب : عبدالحميد المحادين
في البدء يكون الألم، والألم هو الذي يبقى في الذاكرة، والذاكرة وعاء الفن . . والرواية وعاء المجتمع ولذا فالرواية هي فن المجتمع، وهل بغير النضوج الاجتماعي تتشكل الفنون الاجتماعية! وكيف يكون الميلاد طبيعيا . . في حينه ووقته، إذا لم يكن النمو هكذا طبيعيا . . وإلا فليس صعبا ان نفهم ما الإجهاض! حين تعلن الرواية عن ميلادها نستطيع ان نقدر ان المجتمع قد استكمل من التعقيد مدى، ومن التناقضات أو التوافقات ما أباح الميلاد الطبيعي . . والزمن قيمة من قيم التعقيد والتطور، وفي الخليج، مجتمع يختزن منذ جذوره البعيدة إمكانات الفن الروائي . . لكن الانتظار كان ضرورة للنمو، لأن الأشياء لا تفقد منطقها وإن فعلت فإلى حين، تعود الى الاتزان، وهي إذ تتطور داخل قوانين منطقها الذاتي تصل الى «الكتلة الحرجة»، حيث تصبح إمكانات التفجر الذهني والفني والعقلي، ولعل الخليج، يملك خصوصية لا يدانيها مجتمع آخر، فالانقلاب الاقتصادي الذي أصابه . . كان بسرعة مذهلة، فانتصب الاقتصاد عملاقا فوق أرضية مختلفة . . هي امتداد لعصر البحر والغوص . . لم تملك الفرصة الكافية لتتحول استجابة أو تمهيدا لعصر النفط فكان هناك انكسار . . والانكسار في الاقتصاد ممكن . . لكنه في الانسان مستحيل، فانثنى انسان الخليج، جسمه وذهنه في أوج النفط، بما استتبع من تغييرات اجتماعية سريعة، وروحه مازالت في البحر . . ولغته الانفعالية الصادقة مشتقة من زمان الحزن . . وفي زمان الفرح . . تبدو لغة الحزن غريبة . . لكنها تكتسب التحديد . . والإبعاد . .
هذا الفتق الحاد . . جعلنا نقف أمام مواجهة شيئين غريبين . . حزن صار ذكرى، لكنها ذكرى تجذرت في العمق، وفرح صار واقعا أو هو يصير . . إلى حد بعيد . . والحزن هو مفجر الابداع كله، لكن التعبير كان محددا . . بل كان قاصرا . . وحين جاء عصر التعبير، واللغة البينة، كان الحاضر مكتنزا بحياة جديدة . . فلا الذين كانوا يعانون عثروا على لغتهم داخل المعاناة ولا الذين يمكنهم العثور على اللغة يعانون . . فصارت بعض الفنون لذلك مشاريع مؤجلة . . عن وعي . . الى أن يجئ زمن . . تتوحد فيه اللغة مع شكل وحدة المعاناة . . أو تصبح اللغة فيه في محاذاة المعاناة . . وحين كان التعبير يفرض نفسه . . أحيانا . . كان فرديا وذاتيا . . ينحصر في زمان ومكان متعامدين متقاطعين، فاقداً للامتداد . . ولا أدري هل هذا يكفي أن يفسر لنا سبق الشعر للقصة . . وسبق القصة للرواية؟! وازدهر الشعر وازدهرت القصة القصيرة . . لأن كلا الفنين فن اللحظة، وفن التفجير الذاتي . . فن الفرد . . والفرد موجود دائما، قادر على استبطان علاقات ما داخله، متفاعل مع اللحظة الخارجية، واللحظة بطبيعتها لا تمتد . . هي لحظة، اذا تفجرت كانت القصيدة، أو كانت القصة القصيرة إذا مازجها شيء من الزمن، لكن الخروج من اللحظة الى الزمان الممتد . . ومن البسيط الى المركب، ومن الحدس الى الحدث، ومن النقطة إلى الخط يتطلب تركيبا اجتماعيا وثقافيا وحضاريا، يكون شرطا سابقا أو كالسابق لفن أكثر بقاء، لأنه أكثر وقوعا أو أكثر إيهاما بالوقوع.
هذا كله . . قد يساعد على تفسير بسيط: لماذا لم تولد الرواية في الخليج بشكل يساير الشعر أو القصة القصيرة؟ مسألة تحتاج الى استقصاء ليس سهلا وأقصد بالرواية، الرواية الخليجية التي تنسج بالحياة الخليجية أو بجوانب من هذه الحياة، بحيث ترقى الرواية لتكون وثيقة، لا مجرد أن تكون ولدت في الخليج . . وإلا كنا سنقول إن روايات إسماعيل فهد إسماعيل خليجية، لمجرد انها ولدت في الكويت . . وهذا جانب آخر تماما . . لأنها ليست كذلك رغم شهادة ميلادها هل يحق لنا أن نقول أن «الشياح» رواية خليجية؟!! الجواب يقع في السؤال! لكننا نستطيع أن نبرز «شاهنده» كأول رواية خليجية، تحمل نسغا خليجيا، فيها شيء من لون وطعم وأخلاق وممارسات . . وحياة الخليج في فترة من الفترات . . وهذا هو نجاح راشد عبدالله . . بينما قصر عن ذلك ــ من ناحية خليجية ــ محمد عبدالملك في «الجذوة» فالجذوة ليست رواية خليجية . . وإن كانت مولودة في الخليج، وأحداثها ربما كلها وقعت في مكان ما من الخليج . . لكنها لا تعطي ملمحا واحدا يخص الخليج دون غيره . . فهي وثيقة إنسانية . . وليست وثيقة خليجية . . وذلك لا يقلل من قيمتها . . ولكنه يخرجها من نطاق التعريف السابق . . ونقترب الآن من «اللآلئ» التي كتبها عبدالله خليفة . . وهي واحدة من عدة روايات ولدت في هذا العام . . وللكاتب رواية أخرى ولدت مع اللآلئ . . فقد دفع روايتين في آن واحد وفي زمان كهذا . . صارت فيه صعوبة الطباعة عقبة عسيرة لا بد أن يختل منطق الحمل والميلاد.*
نلتقي برواية «اللآلئ» . . وللوهلة الأولى لا بد أن نتوجس ونحن نتناول رواية اللآلئ . . لأن كتاب القصة القصيرة حين يلجون عالم الرواية . . ينسون أحيانا أن يغيروا أدواتهم . . فيجئ النتاج الجديد . . مختلفا من وجهة كمية . . لا فنية . . وهذا ليس قاعدة بطبيعة الحال . . لكنه احتراز، ومجرد سوء ظن مشروع، يضاف الى تلك الحالة العامة . . توجس آخر . . هو لو أن عبدالله خليفة . . حمل الى روايته كل عيوب مجموعته القصصية «لحن الشتاء» فإن ذلك سيكون سبب توجس آخر لا يبعث على الطمأنينة . . مجرد سوء ظن مشروع . . ومحملا بكل هذه الظنون السيئة . . دخلت عالم اللآلئ . . وأريد أن أسجل أول حكم . . وهو حكم لا يحتاج الى تبرير ولا الى حيثيات . . فحين تبصر طائرة محلقة . . وتقول هذه طائرة . . فانك تستند في ذلك على مفهوم للطائرة استقر لا يختلف عليه اثنان . . وحين تبصر في صحيفة قصيدة ستدرك طبقا لما استقر من مفهوم الشعر . . انها قصيدة لا يختلف اثنان . . لكن الخلاف سيكون على أمور أخرى في القصيدة أو في الطائرة . . لأن الجوانب متعددة ومختلفة . . أقول بعد أول قراءة لرواية «اللآلئ» أنه . . وحسب المفهوم الذي استقر في الأدب العربي وحتى الآداب الأجنبية . . وبدون تبرير أو تفسير أو حيثيات . . أن اللآلئ «رواية» . . وهذا الحكم نفسه هو مبرر دراستها على أنها رواية . . وإلا لكان التوقف أفضل.
وقبل أن نتحدث عن اللآلئ . . علينا أن نذكر المقولة التي تفيد: حين تبدأ احدى اليدين بتسجيل نبضات الحروف، فان الأخرى تتحسس الجرح . . من هنا يبدأ الفن .
الزمان: قبل عصر النفط . . أي عصر البحر . . عصر الغوص . . والغوص هو ملحمة انسان الخليج . . انه المغامرة . . الحب . . الحقد . . الموت . . الحياة . . الظلم . . العدل . . القوة الإنسانية والضعف، حيث الإنسان اقوى ما يكون وأضعف ما يكون . . جبار حيا . . وجيفة ميتا . . وبين الجبروت والجيف، هو خزين من الألم والذكرى والأشواق . . والضياع والانكفاء . . أو التملك والجشع . . من هذه الملحمة اجتزأ لنا الراوي مقطعا ذا دلالة ما، مستكمل العناصر، المحور يدور حوله تدور الأحداث . . نوخذة طاغية . . حازم . . بيده الأمر والنهي، وهل كان النواخذة غير ذلك؟! مع تشكيلة من البحارة، مستسلمين حانقين . . وهل كان البحار غير ذلك؟! . . غواصون . . وسيوب وشباب . . حياة كاملة، فيهم الصبي والكهل والشيخ الهرم، فيهم العربيد وفيهم المتدين، لكل منهم فلسفة خاصة يعيش الحياة بها، بكل ما في الحياة من حقائق وما في الحياة من وقائع . . وحدتهم السفينة . . ووحدتهم رحلة غوص وفرقتهم الجذور . . ومزقتهم الأشواق . . كل منهم جاء من أسرة مختلفة عن الأخرى . . لكل منهم حياة جوانية خاصة به . . اشواقهم، الحياة التي يحلمون بها . . كل شيء بينهم مختلف . . يحلمون فوق هذه السفينة كل تناقضاتهم الإنسانية، التي يدفنونها مؤقتا من أجل هذا العمل الذي يبدو مشتركا . . تناقضات صغيرة تذوب في التناقض الأكبر، تناقضهم الأكبر الآن مع النوخذة، المتسلط المستخف بكل الإنسانية، يحلم بالثروة . . باللؤلؤ . . بالجاه وهذا شأن الربابنة ايام اللؤلؤ . . ان محمد سرحان نمط لكل النواخذة، وفي مواجهته نماذج مستلبة، تكاد تلقاهم فوق كل سفينة، مطر الغواص الذي انفجرت أذنه ثم انفجر رأسه من الغوص ولم يرحمه النوخذة . . وتركه يغوص ثم يموت . . مطر حلم أبيه في الحياة . . وأبوه إمام مسجد أعمى . . يبصر بالعصا . . في طريقه ليؤذن للصلاة . . ناصر . . بحار آخر فيه بعض البلاهة أو هكذا يراه النوخذة . . له زوجة جميلة . . ربما كانت تخونه مع البقال . . علي بحار قليل الكلام . . شديد الإحساس بالفجيعة.
صبي صغير معهم . . طفل يتدرب على الرجولة . . يبكي ليلا . . موسى . . رجل متدين . . سلطان . . وغيرهم وغيرهم . . كانوا أنغاما حزينة في السمفونية المفجعة، تحت وطأة النوخذة يجترون مشاعرهم المشتركة، وعلاقات تبدو حميمة . . كانوا يتعذبون مرتين.
النوخذة . . اللؤلؤ . . وجهان . . لشيء واحد بريق اللؤلؤ لا يقاوم . . ووسط أشواق العودة وتحفزهم «وحين غادرت العناكب الخشبية المنطقة» أراد النوخذة محمد سرحان أن يبقى على سفينته أياما أخرى . . طمعا في مزيد من اللؤلؤ . . رغم الحاح البحارة في العودة لكن . . حدث انكسار قلب كل موازين النوخذة والبحارة . . وهنا يبدأ الجزء الأكثر درامية والأكثر تراجيدية في الرواية . .
العاصفة تضرب السفينة . . يغيرون اتجاههم لتفاديها يسيرون في اتجاه بر قريب . . تتحطم السفينة فوق صخرة ضخمة . . تسحبهم الأمواج إلى الصحراء . . شديدة القسوة . . يفقدون بعض الرجال . . ويفقدون الصبي.
في البحر . . الصحراء . . تتغير معطيات كثيرة في الصراع، تتغير مراكز التناقض . . يصيرون جميعا في تناقض رهيب مع القدر القاسي، الوضع الذي استجد . . هذا التناقض يغطي أحيانا التناقضات الصغيرة والتناقضات السابقة، تختفي مؤقتا ولكن . . لا تنتهي فهي تظهر من حين الى آخر.
«يلتفتون إليك . . يصغون . . ينمو الحماس في اتجاه مغاير، قريب إليهم كأنك منهم! بينهم تدخل، عيونهم معك، ينبضون في اللقاء . . مبهج أن تكون منهم ولكن هل أنت منهم . . ».
هذا هو الوضع الجديد . . إحساس النوخذة كأنه منهم ولو مؤقتا، لكن هل هو عمليا منهم؟! «انهم يفهمونني الآن جيدا لست النوخذة القديم، أنا صديق لكم، بل أنا منكم، اختاروا شخصا غيري لقيادتكم» هذه التحولات في طبيعة الصراع أمام الخطر الأكبر.
ويشح الماء، ويموت حمد من العطش، بينما كان الماء معهم، كانوا يتوجسون من بعضهم، ومع ذلك هم يواجهون الخطر، وبين الحين والحين تنشأ بينهم المواجهة، وحتى انهم في لحظة ضربوا النوخذة وسلبوا منه اللآلئ، التي احتال للاحتفاظ بها في حزامه، وكانت هي محور الصراع الخفي بين الجميع، وحين تتأزم الرحلة، يقعون في أيدي مجموعة من البدو، يسلبونهم اللؤلؤ . . ويساعدونهم على استئجار سفينة تعود بهم.
كان من الممكن أن تبقى الرواية مجرد أحداث في بحر وسفينة وصحراء . . ومجموعة من الأشخاص اختلفت أدوارهم، لكن الروائي نجح في أن يجعل الرواية ذات زخم اجتماعي، لأنه لم يغفل جذور الأبطال، بل احتفى بشكل رئيسي بالبعد الثالث لشخصيات الرواية، هذا البعد الذي ينطوي على الحياة الجوانية للشخصيات، في واقعها النفسي من جهة وفي ارتباطها الاجتماعي من جهة أخرى، ورغم أن الأحداث تقع في البحر والصحراء، إلا أن المجتمع ذاته كان حاضرا مؤثرا كذلك . . ومن خلال التقنية التي اعتمدها، وهي رصد الحياة النفسية للأبطال بالوسائل الموصولة بهذا العالم الخفي، فكان الابطال يتنقلون من البحر الى البحر من خلال تيار الوعي أو الحلم أو المونولوج الداخلي، أو الحوار . . وهذا وضع اللوحة في مكانها الصحيح من حيث أنه بسط تحت أقدام شخوصها أرضية اجتماعية من الضروري الإلمام بها، ومن الضروري التعرف عليها، حيث يواجهنا شخوص نمطيون في البحر، لكن نموهم الحقيقي يجئ من تجذرهم في البحر، وانتماء كل منهم الى فئة من الناس . . هم أسرته، التي تعاني قضاياها الخاصة بها . .
لقد استطاع من خلال الانتماء الى البحر أن يقدم لنا النوخذة، الذي تعلم التسلط من أبيه، الذي كانت له سطوة، يتدخل في صنع حياة ابنه بشكل لا يقبل المناقشة، حتى أنه يتدخل في زواج ابنه وفي معنى هذا الزواج . . وكذلك دور الأم وموقعها في هذا المجتمع المتعالي.
«يجب أن تصبح ما أريد أنا . . أنا الذي أحدد لك ماذا تعمل ومن تتزوج».
حتى ان هناك لقطات تنال بعض الفكر الاجتماعي، وتفسير الكثيرين للأحداث بشكل لاهوتي، وهو التفسير الذي يجعل لكل مصيبة عقوبة سماوية على مخالفة من المخالفات «لا بد اننا سيئون جدا وإلا لما القانا في هذه الأرض القاحلة، وسلط علينا عذابه».
الى الشطآن نقلنا الراوي حيث البحر قد شكل الحياة الاجتماعية ببعض التقاليد والطقوس التي كانت ترافق الغواصين في خروجهم وفي غيابهم . . الزغاريد في الحناجر والمشموم في الرقاب، لسنا أمام مجموعة يطعنها البحر، بل نحن أمام امتداد اجتماعي، وارتباطات هناك فوق السيف . . وفي البيوت . . هذا هو واحد من أسباب عذاب البحارة وهم يضيعون في هذا التيه حتى مات من مات منهم، سيبلغ أهله مصيره، هذه الفئة من الناس التي صار البحر قدرها . . تحبه وتكرهه في آن . .
بناء الرواية :
لأن عبدالله خليفة يكتب الرواية لأول مرة، ولكنه لا يكتب القصة لأول مرة . . كان المتوقع أن يبدأ بداية تقليدية، لكنه لم يفعل وتجاوز البدايات التقليدية الى بناء أكثر تطورا وأكثر تعقيدا، حيث انه ربما استنفد التجريب في قصصه القصيرة، وابتدأ وتجاوز البدء . . انه يقدم لنا رواية ذات تقنية متطورة . . ومتقدمة . . ومسيطر عليها إلا قليلا.
اللعبة الروائية . . لعبة البناء . . هي أكثر الجوانب صعوبة في العمل الروائي، ولعل الوحدة الزمانية والوحدة المكانية في جانب والوحدة النفسية في جانب آخر هي المحك الأكثر الذي ينجح فيه الروائي أو يفشل.
لقد نجح عبدالله خليفة في تجاوز هذه المفارقة، وأحكم قبضته على الرواية في معظم أوقاتها معتمدا على الوحدة النفسية، مستخدما لذلك الأدوات التي تخدم هذه التقنية.
تيار الوعي، الحلم، المونولوج، الحوار . . هي تقنيات إذا أحكم الروائي السيطرة عليها فإنها تعطي للرواية بعدا سيكولوجيا.
إن البراعة في التقاط التيارات الحقيقية في النفس الإنسانية في مواجهة المواقف المعلنة، تضعنا أمام شخوص تعيش حياتين في آن واحد . . الحياة الخارجية وحياة داخلية هي المؤشر للانفعال الإنساني وللموقف، هي أصدق وأقرب الى الحقيقة النفسية من تلك الخارجية، ولكنها تبقى في الظلام، وتظهر في مناسبات نفسية مختلفة.
ولأن الرواية هي التاريخ الوجداني للمجتمع، تحمل زخمه الحقيقي، من خلال ما يتفجر داخلها من إرهاصات وتحولات حتى لو بدت على شكل نبضات بسيطة، إلا أنها هي الحركة الاجتماعية في النهاية.
منذ البدء نلتقي بالراوي يبادل في موقعين للكلام، الراوي نفسه والنوخذة، وبينهما يجري نقل الأحداث وتصويرها، من خلال ضمير المخاطب وضمير الغائب . . وضمير المتكلم، هذه أخرجت الرواية من تقنية السرد الى تقنية الرصد، من الموقف خارج الفعل الى الموقف داخل هذا الفعل، وهذا يجعل التقنية تقنية نفاذ الى العمق، وهذا أصدق وأقرب الى النفس الإنسانية بل إنه الاعتراف نفسه، إن رواية الاعترافات هي رواية النبض النفسي، تضع الأبطال في مجال الصدق من التوصيل ومن خلال الومضات الدالة السريعة تتفتح الآفاق الكبرى للمتابع، انها اللقطات المتداخلة.
ولقد نجحت الرواية في ايصالنا الى حياة الأبطال الداخلية، وكيف كانت المواقف تظهر وتختفي حسب الظروف وأطراف الصراع، إن كان الخطاب . . أو التجريد . . تضبط الأحداث . . وتبتعد عن الفضفضة . . ولأمر كهذا كانت الرواية النفسية هي أنجح الروايات من حيث تصوير الحدث الذي لا يتطور في خيط وإنما تتطور المجموعة متداخلة.
والحلم . . يربط الفرد بلا شعوره ويكشف التيار عن التناقض الرهيب في مواقف، الانسان واضطراره الى ذلك . . والمونولوج يكشف بعدين متداخلين . . وكان الحوار رشيقا مختصرا ذا دلالة هذا كله يحسب مع الرواية . . لكن . .
لكن ماذا؟
من الوهلة الأولى نلتقي بلغة بلاغية البناء، من حيث تبادل العلاقات، وهذا البناء في الجملة اصبح ممجوجا في الشعر، فكيف في الرواية . . أن الانتفاع بطاقات اللغة أمر مطلوب، لكن الوصف الروائي يجب أن يعتمد على الدقة لا على التخيل البلاغي التقليدي الذي اهترأ من زمان بعيد.
إن الرواية فن الحدث . . واللغة المتحركة هي التي تساعدنا على الاقتراب من الحدث . . وكلما اقتربنا من نبض الحدث كلما صار ذلك موحيا . . لكن التورم البلاغي فوق انه يصرفنا عن متابعة الحدث، إلا أنه يوقعنا في هذا الخيال الرومانسي الفظ.
لننظر في هذه الجمل التي هي نموذج لمئات الجمل المنتشرة في الرواية، وهي التي تشكل بقعا فاتحة في هذا الجسم الجميل . .
خيم سكون كهل فوق الماء./ زحفت جميع العناكب الخشبية نحو الغرب./ راح الماء يقاتلهم بسيوفه./ تكورت قبضة الموج./ خففت الريح من لهجتها الغاضبة./ الريح تطرق فؤوسها فوق الأحجار./ ننظر إلى منشار الريح./ كانت عيناه مفلوقتين بفأس الألم.
وغير ذلك كثير من تراكيب لا تطيقها الفنون الروائية، بل حتى أشد الفنون التصاقا بها صار لا يحتملها.
ثم إن بعض التجاوزات اللغوية التي لا تحتمها ضرورة، تصبح مرفوضة كقوله: «يتفطر بالحنظل ويتعشى بالتيزاب» ونلاحظ أن يتفطر تقابل يتعشى . . أي «يفطر» وفرق كبير بين يتفطر ويفطر.
وأخيرا يمكننا أن نقول . . أن «اللآلئ» رواية ستذكر حين يجئ يوم يؤرخ فيه أحد مؤرخي الآدب للفن الروائي في الخليج العربي . . كواحدة من الروايات الناجحة.
كتب : عبدالحميد المحادين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ــ رواية اللآلئ: كتبت في السجن سنة 1979 ونشرت في عام 1982.
ــ رواية القرصان والمدينة: كتبت في السجن سنة 1980 ونشرت في عام 1982. من المؤكد ان لا توجد رفاهية في النشر!
كتابات: العدد الثامن عشر ـ السنة الثامنة ـ 01 يناير 1982.
- قمرٌ فوق دمشق
- قراءة في أعمال الأديب عبدالله خليفة
- قصص من دلمون
- كريستين هانا
- المكانُ في روايات عبد الله خليفة دراسة تحليليّة لنماذجَ مُختارة
- عبدالله خليفة: الرؤية الفكرية والفنية لأدبه












