كتب : حسن داوود المصدر السفير التاريخ 1983 – 3 – 19
قارئ رواية «اللآلئ» لـ عبدالله خليفة لا يستطيع أن ينتزع الابطال من المحيط المكاني الذي يحتويهم . دائما يرى القارىء أبطال الرواية عن بعد من مسافة تفصله عنهم . فحين هم في البحر يراهم القارىء من عل. أولا يرى السفينة الهرمة، ثم يراهم على متنها نقاطا صغيرة. وحين تهب العاصفة العاتية وتحطم السفينة وترميهم في الصحراء، نراهم ضائعين في مساحات من الرمال لا تنتهي ايضا في الصحراء هم بقع صغيرة ، ويراهم القارىء من عل. وحين يتحركون أو يتكلمون أو يجري بينهم حدث فكأنما الكاميرا السينمائية هبطت من علو شاهق واقتربت من رجلين يتحاوران لكن تقف الكاميرا في مكان تحرص منه أن تظهر الرمال المترامية في خلفية الصورة . هنا تختلف الصحراء عن تلك التي قدمها غسان كنفاني في روايته «ما تبقى لكم» (التي تأثر في كتابتها برواية الصخب والعنف لفوكنر). في غسان كنفاني الصحراء مكان لا يلبث أن يتحول إلى بقعة رمل صغيرة حين يتواجه البطل ونده الاسرائيلي. وفي لحظات الترقب الحاسم بينهما يبدو وجه الفلسطيني مستديراً وكبيراً. وجهان يتربصان أو يتحاوران لكنهما يطغيان على المكان ويلغيانه. في رواية عبدالله خليفة لا تتسع الوجوه لتشمل محيط الكتابة كله. تبقى دائماً اشياء في المكان ، صغيرة ، وكل ما تفعله يدل على سطوة الصحراء وطباعها حين يتنازع الابطال الهاربون، حين يقتتلون ويتحاسدون وتبلغ بينهم غرائز التملك ذروتها ، فإنما يكون ذلك دليلا على التأثير الذي تحدثه الشمس اللاهبة وفقدان الماء في الشجر. ابطال الرواية، حين يتحركون. فكأنهم يخرجون من الصحراء طبائعها المختبئة ، يعطون للمكان بعده البشري . هم كائنات صحراوية لذلك لا تنفصل اقدامهم عن الرمل ووجوههم عن الشمس ، ولا يتنازعون إلا كمجموعة مشبعة الغرائز. مجموعة ليس في الإطار المكاني المترامي ما يدل على أثر مما أثار الاتفاق أو التآلف. كل مشهد ترسمه الرواية كبير ومتسع البحر . الصحراء ، والأبطال لا يتعثرون بل يموتون، لا ينمو بينهم الحوار بل يشج واحدهم رأس آخر فيتدفق الدم احمر غزيراً ويبطل أي فاعلية لاحتمل كلام افعل البشر الضائعون في الصحراء متلائمة مع الاتساع الخرافي للبحر والصحراء من حولهم ولا يتم التعبير عن هذا التلاؤم بالقتل وحده ، بل بإزالة كل أشكال العلاقة الموروثة بين الرجال الضائعين . في قلب الصحراء وفي مرحلة شديدة من عطش الرجال وضياعهم لا يعود أمر «النوخذا» ( وهو قائد سفينة صيد اللؤلؤ وصاحبها) مطاعاً، لا تعود رغباته مستجابة ، ولا تحفظ مكانته الاصلية، المستمدة اصلاً من اليابسة وليس من البحر . في قلب الصحراء والضياع، يتعرى «النوخذا» من صفاته ومرتبته ويصبح جسدا صرفا ، رجلا مثل الآخرين، ينساق معهم كواحد بينهم . في آخر الرواية، ولا يعود شيئا مختلفا عنهم . حين يكتب عبدالله خليفة عن المكان الشاسع والقاسي، عن البحر والصحراء، عن أمكنة لم يغيرها التاريخ بل بقيت هي نفسها على مداره . حين يكتب عبدالله خليفة عن ذلك كله فإنما يكون ينقل هذه الامكنة الى مجال الكتابة ويجعلها أدبية شرط ذلك، شرط أن يصف الكاتب سفينة عتيق خربة فيها طبائع البشر ، أن يعيش الكاتب حنيناً الى سفينة لم تعد موجودة شرط أن يحضر المكان سيدا طاغيا ، هو ان يبتعد البشر الصيادون والضائعون عن البحر والصحراء. عبدالله خليفة يتذكر زمناً وأمكنة. ينتابه حنين إلى ما لم يعد موجوداً. إلى بشر باتوا وكأنهم من ماض سحيق بينما بعضهم ما زال حياً ويستطيع ان بسرد بالتفاصيل حكاية يعتبرها الجيل الذي أتى بعده ذكرى شديدة البعد. يستطيع صيد اللؤلؤ في البحرين الكهل الذي ما زال حيا ، أن يتذكر وجوه الصيادين والخشب الواقعي الذي صنعت منه صارية السفينة . ويستطيع ايضاً أن يستعيد حشرة صغيرة كانت قد ملأت عينيه وهو يحدق فيها في الصحراء المترامية . الراوي عبدالله خليفة لا يفعل ذلك. بل ينقل اشياء تلك الحياة وملامحها الى حيز الأدب . وفي الأدب ، لا يعود يظهر من المكان إلا خاصية طاغية ، ومن حركة البشر إلا ما ينبىء بالمصير. نوع خاص من الادب، او نوع خاص من الرواية تجعل المجرى الذي تنتظم فيه الأشياء والأحداث وكأنه يسير بقوة التذكر. التذكر الذي هو خالق الأنساق لأنه يوحد بين أشياء متآلفة ، معتمداً في ذلك على الزمن الواحد الذي يخترقها معاً. عبدالله خليفة شاعر وروائي . يظهر هذا من لغة الرواية أيضاً. حيث لا وجود للكلام السردي الذي يحاول أن يكون صورة عاكسة للحدث لا يسعى إلى أن يغير في نبرة اللغة ودلالاتها تبعاً لتدرج موضوعه بين الوطن والحوار والحدث . اللغة هي واحدة . وحين تنقل قتالا بين رجلين تاخذ الارتخاء نفسه الذي تأخذه حين يصف الراوي الجبل العالي البعيد . اللغة كانها تحوم فوق ما يجري ولا تهبط إليه. قارئ الرواية سيبذل جهداً ، أو سيقرأ المقطع مرة ثانية حين يتبين في نهايته أنه يدور حول حدث وليس حول وصف هنا لا تجهد اللغة . لا تتوتر أو تنبسط أو تتسارع تبعاً لنوعية الموضوع واهميته بين المواضيع الأخرى لا تكشف اللغة عن فعل القتل كأنها تكشف عن سر أو عن كنز حدثي. حين يجد الرجال علي مقتولاً فإنما يقال هذا ببساطة وفي السياق الطبيعي كان فعل القتل حدث عابر أو حلقة من حلقات الكلام . «بدأ رجل يجلدك ماذا بقي فيك ؟ تكلم ، تكلم ، ماذا أعطاك أولئك الأوباش ؟ اهانوك ، بصقوا في وجهك ، تركوك وتبعوا آخرين . تكلم لترجع إلى أهلك حتى بلا لؤلؤة واحدة اتكلم ! سيجدونها، الان يفتشون خالداً ، هو الذي سرقها وداسك فانتقم منه…». هذا المقطع يبدو وكأنه فاصل من مناجاة ، سيناريو من حدث متخيل ، أو استعادة لحدث ماض بصيغة التذكر. هذا ما يعتقده القارئ . لكن ، في الرواية ، هذا المقطع هو ذروة التوتر في البناء الروائي، ويعبر عن اللحظة الأكثر خطراً وتعقداً في الرواية . القارىء يحسب غالباً أن الراوي استعمل هذه الصيغة للخروج من الحدث الذي ينتمي الى المضارع. بينما في الرواية هذه تحضر الأزمنة الثلاثة في نسيج واحد . لا يأبه الكاتب لأن يوحد الاشياء في مجرى زمني واحد . ربما لأن الحدث ليس المهم بالنسبة له، بل مصدره والمحيط الذي يولده . وهنا أيضاً نعود الى الأبطال الذين لا يشاهدون إلا عن بعد ، من عل، كأنهم في الصحراء ، نقاط حين يتبعثرون ، وخيط دقيق على رمال الصحراء المترامية ، حين يسيرون إلى الهدف الذي لا يعرفون عنه شيئاً.
إسم الكاتب حسن داوود المصدر السفير التاريخ 1983 – 3 – 19 الموضوع القصة العربية
تعتبر الرواية في البحرين حديثة العهد في الساحة الأدبية بالقياس إلى بقية الأشكال الأدبية الأخرى المتواجدة معها على نفس الساحة . إذ أن الكم الروائي الذي صدر حتى الآن لا يتجاوز عدد أصابع اليد ، مما يطي انطباعاً على قلة عدد المبدعين الذذي دخلوا هذا المجال . ويعود هذا التأخر في ممارسة الإبداع الروائي عند أدباء البحرين إلى تأخر المجتمع البحريني في الانفتاح على مظاهر الحياة العصرية وعلى الأشكال الثقافية الحديثة . وقد نشط الإبداع الروائي في مطلع الثمانينيات في هذه المنطقة من العالم العربي . إذ لم تكن الساحة الأدبية في البحرين قبل هذا الوقت إلا مسرحاً لقصائد الشعر والقصة القصيرة والمقال النثري ، ولم تكن الوراية بزخمها المتشابك ونسيجها السردي المعروف ، وخصوصياتها في سبر أغوار العالم والحياة إلا مطمحاً غالياً للمبدعين في البحرين.
وكانت أول رواية بمعناها الفني تصدر في البحرين هي رواية (الجذوة) لمحمد عبدالملك عام 1981 ، تتابعت على أثرها روايات (اللآلئ) عام 1982، و(القرصان والمدينة)عام 1982، و(الهيرات) عام 1983 لعبدالله خليفة . كما صدرت رواية أمين صالح (أغنية أ . ص الأولى ) عام 1982 ورواية (الحصار) لفوزية رشيد. ويمثل إنتاج عبدالله خليفة القسم الأكبر في عدد الروايات التي صدرت في مسيرة الأدب البحريني . إذ تمثل رواياته الثلاث نصف عدد الروايات الصادرة تقريباً والتي تمثل البواكير الأولى لمحور الرواية في الأدب البحريني الحديث. وعالم عبدالله خليفة الإبداعي سواء ما ظهر في قصصه القصيرة أو في رواياته هو عالم البيئة الاجتماعية البحرينية بخوصياتها ومتغيراتها وتحوراتها . وبكل ما يكتنفُ جوانبها من هموم ترتبط بالبحر والسواحل وحياة الصيد والغوص لاستخراج اللؤلؤ وتجارته . وكذا بكل ما طرأ على بينتها الأساسية من متغيرات ملحة خاصة بعد ظهور النفط في أرضها ودخول عالم التقنية والمال وغزو العمالة الآسيوية وما صاحبها من تطورات على البنية الأساسية للبيئة البحرينية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. والتعبير عن الواقع هو الهم الأول للشكل الروائي سواءً كان لواقع بيئياً ينبعُ من صلب البيئة وما يطرأ عليها من تغير نتيجة للانجازات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي تحدث في بينها للمجتمع كما حدث في بيئة البحرين بصفة خاصة والخليجية بصفةٍ عامة . كما أن الواقع النفسي الذي تضطلع به الرواية في الأعمال التي تتميز بهذا اللون من الكتابة ، والذي تحشدُ له من الشخصيات التي تفرز من همومها وطموحاتها واقعاً نفسياً يمثلُ هو الآخر واقعاً اجتماعياً له خصوصيته. وقد كانت البدايات الأولى للرواية في البحرين متأثرة تأثراً كبيراً بهذا الواقع خاصة إن المؤثرات التي تمورُ بها الساحة الأدبية في العالم الغربي والعالم العربي كانت تجد لها صدى في هذه البدايات ، وكان المضمون العام لهذه الروايات ينسحب في إسقاطاته على الواقع الاجتماعي الذي تعيشه المنطقة. ولعل فكرة الربط بين الشكل والمضمون في الأعمال الروائية البحرينية من ناحية أ،ها تتناول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في هذا المجتمع والمشكلات الناجمة عنه جعل رواد الرواية في البحرين يحتفون بالأشكال الواقعية التي تعبر عن مدلول البيئة وما يصاحب ذلك من تعبير عن النقد الاجتماعي والتمرد ضد مظاهر التسلط و(الفقر) والقمع، وهي سمة احتفى بها رواد الرواية في العالم كله حينما بدأت الأشكال الروائية تأخذ طريقها إلى الظهور ، وكان التعبير عن الواقع هو الهم الأول لدى معظم من كتبوا الرواية في بداياتها الأولى في كل مرة . وكلنا نذكر أعمال ديستويفسكي وجوجول وتولستوي في روسيا ، وبلزاك وستاندال وفلوبير وزولا في فرنسا وديكنز وتوماس هاردي وسمرست موم في انجلترا . فقد كانت كتاباتهم الروائية جميعها تنبع من بيئتهم الخاصة وتعبر عن هموم ومآسي مجتمعاتهم ، وتجسد المشكلات الذاتية ، والهم النفسي ، وتأزمات العصر ، والواقع على المستوى العام والخاص على السواء. كما أن الرواية العربية هي الأخرى عندما بدأت طريقها في دروب الساحة الأدبية ، كان الاتكاء على الموضوعات المستمدة من البيئة هو أهم موضوعاتها ، نجد ذلك في رواية (زينب) للدكتور هيكل ، وأعمال نجيب محفوظ ، وحنا مينا ، ومحمود المسعدي ، ومحمود أحمد السيد ، والطيب صالح وغيرهم. ولعل الروائي البحريني عبدالله خليفة وهو أهم روائيي البحرين حتى الآن ، وأحد الذين استمدوا أعمالهم من الواقع الاجتماعي لبيئته ، وأحد الذين عبروا بأعمالهم القصصية والروائية عن هموم المجتمع البحريني بكل خصوصياته . لعله يعتبر رائد الرواية البحرينة بجانب انه يتسمد خصوصيته في هذا المجال من احتفائه بصفة خاصة بعالم البحر والغوص وما يحيط ويتصلُ به من اعمال لها عبقها وتراثها وموروثها الاجتماعي الخاص . وفي حديث له عن تجربته القصصية والروائية قال : (لقد بدأت محاولات الكتابة القصصية منذ عام 1969 ، وقد نشرتُ عشرات القصص والمقالات الأدبية منذ تلك السنة ، ومنذ البداية كانت تسكنني هموم وطني وآماله ، وقد عبرتُ عنها حسب تجربتي الأدبية والفكرية ، حيث كنتُ اتوجه إلى الفكرة والحدث بوضوح وبلامواربة ، وقد حاولت استعياب فن القصة وبعد فترة رحتُ اتأمل التجربة بشكل أكثر عمقاً واستيعاباً ، كما أن حصلتُ على تجارب كثيرة ومختلفة حياتية ، استطعتُ من خلالها الاقتراب من الواقع بشكل أكثر حمييمة . ولهذا صارت القصص حسب رأيي أكثر اتساعاً وإحاطة بالحياة ، كما أن هذا الاتساع والإحاطة مهدا لعملية الكتابة الروائية ، فمنذ أن يحدد الكاتب شخصياته ، ويقومُ بتعميقها ، ويشكل فصولاً في قصته القصيرة ، حتى يبدأ في طريق الرواية . وقد كتبتُ قبل روايتي الأولى (اللآلىء) ثلاث روايات قصيرة لم أقم بنشرها ، كنتُ اتجه فيها إلى الغرابة واستحداث أجواء عجيبة ولكني مع الاهتمام بموضوعات شعبية أخذتُ اقترب من الرواية ، وبدأت ملامح الأشخاص في الظهور ، كما أخذ واقعهم الذي يعشون فيه بالتبلور شيئاً فشيئاً . قد دفعني هذا إلى محاولة السيطرة على الصراع الروائي ، ووحدته وعملية تطويره ). (اللآلى) ومظاهر القهر الاجتماعي تشكل رواية (اللآلئ) نغمة خاصة في اعمال عبدالله خليفة ، فهي الرواية الأوللى له ، وهي تعبرُ عن مجتمع البحر وصيد اللؤلؤ ، وما يكتنف هذا العالم من مخاطر الغوص ، والعلاقات التي تربط بين العاملين بالبحر ، وممارسات أصحاب السفن ، وجشعهم ، وتسلطهم ، ومظاهر القهر الاجتماعيي ، والتحكم الذي يفرضه (النواخذا) صاحب سفينة صيد اللؤلؤ على الرجال الذين يعملون على سفينته سواء كان ذلك في أعمال الصيد أم في تسيير دفة السفينة . ومن خلال الحدث الذي يتنامى ويتصاعد في الرواية من موت صائد اللؤلؤ (مطر) بعد إصرار النوخذا على معاودة نزوله الماء مرة أخرى ، ومحاولة الرجال المستميتة إقناع النوخذا بالاكتفاء بهذا الصيد الثمين ، مروراً بهذه الأم التي تدفعُ صغيرَها ليعمل في الغوص بدلاً من أبيه المكبل بديون النوخذا ، وكان البحر انتزع صياداً ماهراً للؤلؤ بعد رحلة حياتية شاقة ، فدفع له البر المتمثل في هذه الأم بالبدل (الصغير) ليجدد دم هذا العالم المتميز ، عالم الغوص العجيب المثير . ويصور الروائي عبدالله خليفة إصرار الأم على عمل إبنها في عالم الغوص ، غير مبالية بنظرات الرجال النهمة ، وبالمصير المجهول الذي ينتظر إبنها : (( فزعَ الصغير ، قام وعاد إلى مكانه . جاءت أمهُ وهي تجره وراءها . دخلت عليه في المجلس بين الرجال . ماذا تريد هذه المرأة ؟ ، تطلعوا إليها وإلى الصغير الذي اختفى وراء عباءتها . إن وجهها لم يزلْ جميلاً . وهذه عيناها وراء البرقع تنبئ بذلك . لم تزل تملك بعضَ الموارد حتى وزوجها مشلول)). وتبدأ رحلة الصيد والغوص وسط العواصف والأنواء والأمواج ، ويصور الكاتب معاناة الرجال وصراعهم ضد الطبيعة الثائرة . وكذا هذا الصراع للنوخذا وحرصه على لآلئه التي استخرجها من البحر . إنه لا يخاف الطبيعة بقدر ما يخاف ثورة البحارة عليه ، إنه لا يخاف هذه الأمواج التي تعلو كالجبال ، كما يخاف رجاله الذين يستغلهم أبشع استغلال ، ويعرض حياتهم للخطر والموت في سبيل لآلئه المزعومة : ((بحثَ عن حزامه ، ها هو ذا ، سكب السائل البلوري على قطعة مخنل ، تشعُ هذه اللآلئ كالنجوم . أدخلها في جيب منه . أحكم إغلاقه جيداً . بحث عن خنجرهِ فوجدهُ تحت وسادته . لأستعدَ جيداً . هؤلاء البحارة مستريحون في فقرهم ونومهم وموتهم . وأنا عليَّ أن أواجههم في يقظتهم وغضبهم )). وفي خضم هذه العواصف يفقد النوخذا الطفل الذي دفعته أمه إلى البحر ليتعلم فنونَ الغوص بدلاً من أبيه . لقد ارتطمتْ السفينة بصخرةٍ كبيرة . ولكنها الحقيقة اصطدمتْ بالواقع الأليم ، وبدأ الرجالُ رحلة المعاناة مع الطبيعة والصحراء والماء واللآلئ والموت : ((أين الرجال ؟ إنهم قطعٌ خشبية تطفو في محيطٍ صاخبٍ ضار فهل تستطيع إمساك جذوره ؟ أين الرجال وهم ينهارون في قبضة العملا ويتفتتون كرملٍ يابس ؟ تقدم إذا بغيت الهلاك . أين الرجال وهم يبحثون عن جحور يختبئون فيها ؟ الدفة قطعة خشب كعصا معلم أعمى . الرجالُ والدفة والظلام والظلام واللآلئ والموت بانفجار الرأس والمراقبة طوال النهار ، والركض حيث تولد اللؤلؤة ، والسياط على ظهور الرجال ، والدم الذي يتسربُ واهناً . . نقطة نقطة . وأكوام المحار . أين الرجال وأحلام الآلات والدخان والحدائق . تعال الآن ليخرس هذا الفم إلى الأبد ، تعالْ لتزرع عظامك فوق هذه الصخرة الشيطانية)). وتتحطم السفينة ولكن النوخذا يحتفظ بحزام اللآلئ وينتظر على الشاطئ المهجور بينما أخذ الرجالُ في التنقيب عن الماء والطعام والأسماك الصغيرة في البحر . فالماء يأت من نبع في البحر . وهذه إحدى خصائص البحرين الفريدة . وأحصى النوخذا خسائر الرحلة في الرجال فجاءت ثلاثة ومن بينهم الصبي . وقبعوا على رمال الشاطئ المهجور ينتظرون النجدة ويحتمون من البرد . وتجوسُ كلمات الكاتب لتغترف من باطن الشخصيات حكاياتهم وأوشاقهم للأهل والزوجات. ثم يعارك الرجالُ الصحراءََ برمالها وشمسها عملاً على الوصول إلى ميناء ينقذهم من الهلاك جوعاً في هذا الشاطئ المقفر بقيادة الربان أو النوخذا الجديد من زملائهم الذي يعمل اللآلئ والنقود(؟) كتب: شوقي بدر يوسف ناقد ادبي من مصر
المنظور السردي صورة مصغرة من العالم الروائي الذي يمثل لما يمكن أن يوجده الراوي من مفردات، سواء اتصلت بذاته، أم ببقية عناصر الأدوات الفنية، ولذلك يمكن اعتبار المنظور مصوغاً كلياً بديلاً عن المكونات البلاغية قصيرة المدى داخل النص، لأنها إن وجدت فهي تتصل ببلاغة الجملة أو الكلمة او بالمدى القصير الذي يوجده المجاز في صورة مصاحبات دلالية تعمل في نطاق ما تصل بعناصر المنظور من مفردات، ويكمن أن نقارن صورة المنظور السردي باعتباره مكوناً للنص الروائي بصورة منظور آخر يصاحبه، وهو المنظور الحكائي، والذي يمثل صورة موازية داخل المنظور السردي، ويمثل بدوره مفردات تتصل بعناصر الحكاية، بداية من الذوات والمكان والزمان والفضاءات المكونة للنص، وقد تتقاطع السردية والحكائية في بعض مفرداتهما، مثل ما يمكن أن يقدمه الراوي إذا كان يعتمد على زمن مغاير لزمن الحكاية، أو كان مجرد ظل لحكاية، وأيضاً إذا استوت أزمنه مختلفة داخل الرواية، مثل ما يمكن أن يمثله زمن القص كإطار حكائي، وزمن الحكاية كمتن حكائي. إن المنظور السردي لا يقف عند الحدود الشكلية للمعنى، ولكنه يتجاوز ذلك إلى الدلالات والذوات بل وكل عناصر البناء، ويعتمد على أطر معنونة تتصل منظورات مصاحبه سواء كانت متوازية أم متقابلة على مستوى رقعة النص، فنرى عدة صور للمنظور على النحو التالي: ــ المنظور السردي الخارجي وهو الإطار الأكبر الذي يضم عناصر غير حكائية مثل الوصف، والمجاز وعلاقات الراوي، واتجاهاته، وكيفية إدارته لحركة الطرح القيمي داخل النص الروائي، ويمكن أن نحدد عدة منظورات مصاحبة للمنظور الخارجي. ــ المنظور السردي الداخلي ويظهر هذا المنظور فيما يقدمه الراوي داخل الذوات من عوالم مصاحبة يمكن أن تتمثل الصورة المقابلة للصراع داخل النص، أو تمثل تأويلاً فكرياً يحدد عالم القيم داخل الفكرة الاجتماعية أو الفكرة السياسية، وهو أيضاً يتقاطع مع المنظور الخارجي ويكمله، ويمثل أحياناً أجزاء منه فيما يخص العلاقات الذي تصنع الغطاء الحكائي للحدث، أو مجموعة الأفعال التي يبني على أساسها النص. إن المنظور السردي يمكن أن يقدم العلاقات الظاهرة والمسكوت عنها داخل النص من خلال كل ذات وطبيعة حركتها، ومن خلال المكان وما يمثله داخل كل شخصية، وأيضاً يعطي أثراً دلالياً متشابهاً للأثر الدلالي الذي يرتبط بصورة الحدث والفعل داخل الرواية، بل إن ما تقدمه العناصر الكلاسيكية في الحكاية مثل الزمن، والراوي، أو الأفعال، يعتبر عاملاً مهماً في بناء المنظور الظاهر، وبل يتحمل ما يمكن أن نقدمه من تأويلات فيما أسميه بالمنظور الضمني، وهنا تتضح عملية السرد، بداية من السارد والمسرود لهن والعملية السردية بكامل مستوياتها بما تتضمنه من عناصر وأفكار تتصل بكل أداة من أدوات السرد. ولذلك يسمح الفضاء النصي والمجازي الذي يضمنه الراوي داخل المنظور بتقديم مفردات الحكاية بشكل يوحي باتحاد الراوي وبقية العناصر التي تتبع كل مفردة من مفردات العملية السردية، والتي بدورها تنتمي إلى حركة الصراع داخل الرواية. إن الراوي عند عبدالله خليفة راو ينحاز إلى ذوات مهمشة في معظمها، ذوات مأزومة بطريقة أو بأخرى، وهي في حالة تناقض دائم مع كل مفردات السرد، يبدأ هذا التناقض مع الذات، ثم يتسع ليشمل الذوات الأخرى، حتى تلك التي تمشي في الدرب القيمي والفكري نفسه، أما الذوات الأخرى، والتي تمثل الحالة المقابلة في الصراع فإنها هي التي تحرك السرد، بمعنى أن ذوات عبدالله خليفة ذوات في كثير من المواقف، سكونية الرؤية، او هكذا يحاول الراوي أن يقدمها من خلال عدد من عناصر الحكاية: 1ــ الأفكار التي تحرك الذوات. 2ــ طبيعة المكان، وعلاقة الذوات به. 3ــ طبيعة الذوات، وعلاقتها بعناصر البناء الحكائي. 4ــ الأحداث التي تواكب حركة الذوات. ■ السياق المؤسس للحكاية: إن الصراع في روايات عبدالله خليفة يمثل صورة افتراضية لما مر به الإنسان والمكان داخل الذات التي تمثل حركة الراوي أولاً، وداخل المكان الذي يمثل الإطار المادي للفعل، فهو يعتمد على صورة الراوي العليم الذي يقدم الحكاية من أولها إلى آخرها معتمداً على مخزون هائل من التفاصيل الحكائية التي تقدم الواقع في صورة افتراضية من ناحية، وتقدم داخل الذوات بصورة مختلفة، تمثل من الناحية النفسية صورة من صور المنظور النفسي الذي يؤسس له سياق إنساني واجتماعي تتميز به فترة تاريخية مهمة من حياة المجتمع الجديد في البحرين، وبالذات مدينة المحرق، وهي المدينة الملاصقة تماماً للبحر. وقد مثل هذان العنصران صورة التطور الطبقي والاجتماعي بشكل يومي، وكأن منظور الصراع داخل النص الحكائي يتم صنعه بشكل حتمي. كذلك فإن الرواية نفسها لا تتضمن مرجعية واحدة فحسب، بل مرجعيات مختلفة، منها مرجعية الكاتب التي يستحضرها لتمتزج بمرجعية النص التي يريد الكاتب طرحها. لا يمثل الصراع عند عبدالله خليفة صورة اجتماعية بقدر ما يمثل صورة وجودية ليست كالتي يمكن أن نجدها في كتابات ساتر، ولكنها الخلفية الافتراضية لحالة الحضارة التي وصل إليها المجتمع في الوطن العربي، وهو يمثل ــ أيضاً ــ واحة مقابلة لحالة الوجود في مدينة مثل الإسكندرية، حيث المكان هو الذي يوجد علاقات المنظور الحكائي، وكذلك مدينة المحرق والمكان هو الذي يوجد المنظور السردي، وهو الأعم في التصور عند الراوي، يعقب ذلك صورة مختلفة لهذا الوجود. ــ المقابلات السردية: المقابلة هي الصورة الأكثر ظهوراً في مستويات السرد الحكائي عند الراوي، فنجد على سبيل التمثيل في رواية «ألماس والأبنوس» يقدم صورة الراوي «برهان» الشخصية المركزية في النص، في مقابل صورة الأب الذي يمثل الحالة التراثية الواعية بمفردات الحياة الواقع. ثم يبدأ الراوي في تحريك المنظور ليقدم المقابلة على أنها منظورات حكائية متقابلة. الأول: يمثله برهان الراوي والذي لا يعي مفردات الواقع. الثاني: الأب ويمثل حالة الوعي. وبعد ذلك يبدأ الخطان السرديان في التداخل والتماهي لنصل إلى حالة فريدة من الوعي عند الأب، وحالة من الغياب عند الابن. لأن الأحداث والمؤشرات التي تميل إليها كل عنصر في الحكاية يمكن تأويلها في داخل السياق وخارجة. إن الصراع الطبقي الذي يمثله الراوي ليس من منظور الفكر الماركسي بقدر ما هو تعبير عن الواقع الفعلي، في بدايات تكوين المجتمعات العربية، حيث الاستعانة بالأفارقة (ويمتلكون العرق الأسود) الذي يقدمه الراوي على أنه صورة للعبودية وحالة مستقلة من الإنسانية، في مقابل العربي الذي ينتمي إلى القبائل التي تكونت للمجتمعات العربية منها. لا يفصل الراوي بين ذاته وبين ذوات الآخرين وهو يقدم البناء الحكائي القائم على التصور المكاني على شواطئ المحرق حيث البحث عن اللؤلؤ هو البحث عن المال والجاه وامتلاك السفن وامتلاك للقوة آنذاك. ــ الحلم واللاوعي: يعتمد عبدالله خليفة في بناء الرواية على صور متعددة من صور تداخل الحلم مع عناصر المجاز التي يمكن ان تتمثل الشخصية بستائر متعددة ومتراكمة من حالات اللاوعي داخل الحكاية، وهو بهذا يقدم صورة الصراع ليس على أنه صراع طبقي فقط. ولكنه صراع وجود في مقابل الحركة المتنامية للمكان وفي وجود حركة مصاحبة مثل حركة الصيد والبحر، وفي ظل حالة من البحث عن الذات داخل الحالة. ولا يتوقف الراوي في حالة اللاوعي التي تمثل صورة من منظور النفسي، وهو ملمح بنائي مهم يعتمد الراوي عليه في جذب دلالات للنص ويقدم المنظور على أنه هو الأكثر ظهوراً في الرواية، ربما لا يريد الراوي أن يقدم الحكاية على أنها حركة حياة، ولكنه يريد أن يقدم الحكاية داخل ظلال من سياق موسع يحتوي الصراع والوجود والبحث عن حقيقة النفس وبقاء الإنسان من الداخل والخارج. يقول الراوي وهو يقدم صورة الصحراء: “آفاق الصحراء غير مرئية. تشابهت فتلاشت الرؤية. مرآة رملية تطالع نفسها. وسماء ممتدة رمادية. وعدة كائنات عطشى تدب وتبحث عن عشب. أصابعي تتجول في نقاط الخريطة. المستنقعات الذهبية تشرد من أنابيبي. الآلة تحفر وتحفر وتلاقي التراب والحصى، تتفجر تأوهاتها وشرارتها. كهف واسع يحدق في البرية. الحمير لا يتسع لها المكان. نسكب المياه في أجسادنا اليابسة الظمأى. تتراقص الأسربة أمام أعيننا. الجبل يجلس شامخاً بعيداً عنا. نرى القوافل تتراقص في سراب الزجاج المضيء. تقطف الجواري والثمار ثم تذوب في المحال. البدوي الذي قطع تذاكر الصحراء لنا يتغذي بالضببة والجرابيع المشوية ثم يعزف الربابة وينام“. ربما يبحث المتلقي عن أثر للفعل الحكائي فلا يجد، وإنما يجد نفسه داخل حالة من الحوار الذاتي الذي يصنعه الراوي مع الأشياء بداية من ذات، ومروراً بالشخصيات ويمثلها «جوهر الأسود» والذي يقدمه برهان الراوي في علاقات متشابكة مع الأشياء والمفردات التي تمثل الواقع. ■ السياق المصاحب والبناء الدرامي: في رواية «أغنية الماء والنار» يقدم الراوي السياق المصاحب كبديل فني عن الصورة الشعرية التالي يعتمد عليها في الحكاية البسيطة المعقدة بين «راشد» السقاء، منبع الحكايات لأطفال الأكواخ التي تنمو على شاطئ المدينة كما ينمو الزنبق في الرمال الجافة. على أن النص كله لا يقدم أفعالاً تُذكر سوى فعل واحد هذا الذي غير مسار الحكاية، فعل البحث عن ذاته في مقابل التخلص من كل شيء، وفي الوقت نفسه أكمل الرؤية السياقية المصاحبة لبناء درامي محكم من خلال عدد من الخطوط السردية المتوازية. ــ قدم الراوي شخصية «راشد» السقاء كذات مقهورة. ــ في نهاية الحكاية تظهر شخصية «راشد» السقاء القاهرة. ــ قدم صورة المرأة الغامضة على أنها جزء من الضعف واللين في مقابل القهر الجسدي. ــ وفي نهاية الحكاية ظهرت شخصية المرأة على أنها صانعة الفعل. الذوات التي تقابل شخصية السقاء قد تكون في حالة صراع ظاهر، وتناقض اجتماعي في حين أن الراوي أراد أن يقدم أطراف الصراع في حالة من الانسجام في كثير من الأحيان ليبني اللعب الحكائي بناءً درامياً يعتمد على صورة التناقض الظاهر بين الشخصيات. يقول الراوي عن السقاء: “يسير في الظلام الشاحب، قد هدهده الكلام والحزن والسكر والضجر، يرمق القمر المستدير كالبالونة الضخمة البيضاء التي لم يطلقها طفل. تأتيه أنفاس البحر فتدغدغ حواسه المتعبة ويرى نفسه الصياد الفقير واقفاً على الصخرة يكلم السمكة/المرأة. ثم يمضي إلى مدن مضاءة بالنور، يضحك من أعماق قلبه، وينام على فراش نظيف ومعه امرأة جميلة لا يزيد فيها سوى الذيل. اقترب من البيت الكبير الجاثم لوحده. إن الأضواء ترقص من نوافذه. سمع إيقاعات طبل وهزات دفوف وغناء فكاد يرقص من جمال الصوت والنشوة. قال (سأتفرج على أجسادهن)، واقترب من النوافذ. لكن شقوقها لم تكن تساعده في رؤية شيء إلا البساط وبعض الأقدام. سمع صوتاً يقولك ــ من هناك؟ كان صوتاً نسائياً رقيقاً. التفت وراءه فلم يجد شيئاً. عاد ثانية للبحث عن الأجساد التي لا ترى منها سوى الأقدام. حاول أن يجلس فلربما اتسعت شاشة الرؤية ولكن بدون فائدة. عاد الصوت النسائي ثانية بأقوى مما كان. التفت إلى النوافذ الأخرى فلم يجد أحداً. وحين نظر إلى السطح وجدها. وجهها الأبيض المشع كان يخترق الظلمة وقلبه. تسمر واقفاً، فرحاً، مضطرباً، راغباً أن يتجمد هذا المشهد طويلاً“. إن الصراع الاجتماعي القبلي الذي يحاول أن يرمز به الراوي للنخوة العربية وصورة القيم التي اكتسبها الراوي من الصحراء، في حين أن الحضارة لم تقدم سوى الحزن والبؤس والقيم التي لا تسهم في بناء الأنسان. وفي رواية «رسائل جمال عبدالناصر السرية» خروج من دائرة الوقوف على شواطئ البحرين ليقدم الصورة الايديولوجية للفكر الروائي حينما يعتمد على شخصية تاريخية معاصرة في بناء درامي يعتمد على أحداث حقيقية ليرى (حرب فلسطين) (العدوان الثلاثي ــ هزيمة 1967) ليظهر الراوي الذي ينتم صراحة إلى الفكر الاشتراكي، ويرى في زعيمه جمال عبدالناصر صورة المخلص الحقيقي الذي يمكن أن يعطي الإنسان العربي الجديد حكاية جديدة، فنراه يعتمد على حالة من الحالات التي اعتمد أن يقدمها في رواية كلها وهي تداخل الحلم والواقع ليخرج شخصية عبدالناصر من إطارها الواقعي إلى الإطار الذي يمكن أن ينتمي لفكر «الواقعية السحرية» بداية من الفعل، ومروراً بالحوارات الذاتية التي يقدمها من خلال الاعتماد على المنظور السردي التخييلي. في حين أنه في رواية «ألماس والأبنوس» يأتي السياق مؤسساً للنص، لأن فكرة الصراع تنتقل من الحالة التخييلية العامة إلى الحالة الواقعية التي ترتبط بالزمان والمكان. ويقول الراوي: “من نسل الصحراء، من صرخة حوريس، من تقطع أوزوريس، من ذكاء عمرو، من بسالة خالد، من نقاء علي، يطلع من حصار السيارات المحروقة والمدرعات الجائعة للحم النيليين، ويمشي بين حقول الجثث المزهرة حقداً خططاً. يحرك البدلات العسكرية للقرويين المليئة بالأشباح والتمائم فيحصد غباراً. ينغمر في الحارات والحقول يصافح المجندين والشهداء والأمهات الثكالى. كلما مشى مع احدهم رأى كبشاً أو نعجة. تعرف بود على برميل لحم فوجده يحلم أن يكون ملكاً “. إن السياق في النص يشتمل على قواعد اللغة، ومواقف الكاتب، والقارئ، وأي شيء آخر قد يكون متصلاً بهذا الموضوع وبطريقة يمكن تصورها أو إدراكها. ولكن إذا قلنا إن المعنى هو السياق المحدد، وهنا يجب أن نقول إن السياق قد يكون غير محدد قبلياً فيما يصل بالموضوعي. ــ الرموز السياقية في الحكاية: هناك دلالات تفصيلية في حياة الراوي عند عبدالله خليفة يجعل منها صورة من صور التحول الحكائي، وصورة من صور الانفصال عن الواقع كأداة من أدوات تجميل حالة الصراع التي تسيطر في الايديولوجية الهاربة من أفعال الشخصيات، وصورة المكان، فنجد على سبيل التمثيل في رواية «ألماس والأبنوس» ولادة طفل أسود يعني بشكل حاد أن المرأة قد خانت مع رجل أسود، وهذا يعني انهيار العلاقات الإنسانية والاجتماعية داخل التراتبية التي حددتها القبيلة العربية، بالإضافة إلى الحالة النفسية التي تصاحب ولادة طفل أسود. ربما أراد الكاتب أن يرمز إلى ازدواج الشخصية عند العربي في صورة العلاقة بين الأبيض والأسود. فالنص يوجد حالته وسياقاته من خلال مجموعة من الرموز السياقية التي تحدد الهدف الايديولوجي أحياناً، أو تحدد وجهة الشخصيات والأفعال داخل الحكاية، وغالباً ما تأتي عند عبدالله خليفة باعتبارها خلفية اجتماعية وإنسانية يمكن أن تقدم سياقاً سياسياً، أو سياقاً حضارياً.
يقول الراوي في «رسائل جمال عبدالناصر السرية» المرأة ذات وجه متألق جميل، عيناها بحيرتان تطير فيهما الكراكي والبجع، تنفث لغة قديمة لا يفهمها، يجلب لها الماء والزبائن والضالين في شعاب الجبال. على الجدران خطوط غريبة. حفر فوجد عملة فيها ذوالقرنين يهزأ بالزمن، وثمة امرأة على ساعدها نسر، وثمة حية تلتف حول عصاها المتجذرة في التراب. النسر يقبض على الصاعقة. والفرعون ملأ الأرض خراباً. المرأة تتبدل في الفراش، تغدو عامية ساخرة من نجمته وبدلته المحروقة وقدومه من النهر للجبال، يرى الحشود تبيع الحيات والقات والتراب للسياح والعقود الزائفة ويقبضون عليه ويضعونه في الحبس، والمرأة تجلب له الأكل والشراب وتسحر الضباط والجنود. تقرأ عليه سورة بلقيس: للتحول فصول كثيرة، جسد المرأة ربيع الطبيعة، ادخل في خلاياي وتكون بشرياً إنسياً جميلاً. يسبح في بركتها الواسعة ويشرب الحليب. يبحث في التلال والأرض الواسعة والحصى عن عملات، يجد جماجم وسلاسل، وعظاماً أزلية ساخرة بالحياة، يركب باخرة مليئة بالجنود تزحف ببطء في البحر وترى السفن المكتظة بالحجاج الغارقة، حشود من الثياب البيض واللحى والنهود، مصانع الحليب المتوقفة المأكولة من سمك القرش، يضحك بين الدخان في المقهى، وهو يطالع الجري وراء القطع المعدنية“. فلو تتبعنا الرموز السياقية الصغيرة لوجدنا الآتي: ــ عملة ذي القرنين يهزأ بالزمن. ــ النسر يقبض على الصاعقة والفرعون ملأ الأرض خراباً. ــ للتحول فصول كثيرة، جسد المرأة ربيع الطبيعة. على أن كل كلمة تصلح أن تكون رمزاً، ثم تتحول إلى فعل من أفعال الدلالة المركزية في النص، والتي تتمحور حول عتبة النص الأولى «رسائل جمال عبدالناصر السرية»، وكأنه يتحدث أو هو يتحدث عن الأحداث السياسية. طبيعة المرحلة، الصراعات الاجتماعية، الطموح الزائد، النصر الزائف، الهزيمة المقنعة. وهكذا يحول الراوي اللغة التي يستخدمها إلى لغة مضادة، وكأنه يكتب الشعر لتتحول الدلالة على أثر ذلك إلى دلالات شعرية تميل إلى المنطق العام أكثر مما تميل إلى منطق الحكاية إن وجدت، لأن الراوي في كثير من سروده لا يميل إلى حكاية مؤطرة بقدر ما يميل إلى حالة من السرود الوصفية التي تتضمن بشكل أو بآخر صورة من صور الحياة التي يقدمها، وهو يعتمد عليها بنائياً في النص بأكثر من أسلوب. الأول: يقدم التأصيل السردي القائم على الوصف، ثم يعقبه بتأصيل فكري ثم يقدم الحدث مغلفاً في السرد. الثاني: يقدم التأصيل الحكائي، ثم يعقبه بسرد وصفي يعتمد على مجازات الواقع والمكان والأفكار. الثالث: يقدم الذوات، ثم يعقب ذلك بوصف سردي يعتمد على الذوات والمكان من خلال العلاقات المجازية النفسية التي تبدو في الحكاية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. محمد زيدان أستاذ النقد الأدبي الحديث
محاضرة للدكتور محمد زيدان أستاذ النقد الأدبي الحديث بعنوان «الرواية البحرينية المعاصرة .. عبـــــــدالله خلــــــــيفة أنموذجا». أكد الدكتور محمد زيدان أستاذ النقد الأدبي الحديث ، الحاجة الى رؤية جديدة في نقد النص الأدبي العربي بداية من النص الشعري ومرورا بالنص الروائي والمسرحي والتمثيليات المرئية ، حيث انها أصبحت نصوصا تؤثر كأي نص أدبيا آخر. وأوضح في محاضرة نظمها مركز عبدالرحمن كانو الثقافي بعنوان «الرواية البحرينية المعاصرة .. عبـــــــدالله خلــــــــيفة انموذجاً»، ان الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في روايته الماس والأبنوس استطاع ان يقدم فكرة المقابلة في البلاغة العربية والتي تكون أحيانا بين جملتين او بين عدة جمل ، واستطاع ان يقدمها على مستوى المنظور ، وهذا يتناسب مع الأشكال ما بعد الحداثة في الرواية العربية. أوضح الدكتور محمد زيدان أن تقنيات الكتابة لدى عبـــــــدالله خلــــــــيفة فيها تشابه في الأسلوب والتشكيل مع تقنيات الكتابة لدى الروائيين في مصر والعراق ، كما انه يقدم الوصف الدقيق كأكواخ الصيادين في بداية تكون المدينة على شواطئ مملكة البحرين ، وبذلك فهو يعتبر أهم ملمح بنائي في الرواية لدى عبـــــــدالله خلــــــــيفة وهو اعتماده كليا على المكان في بناء النص الروائي، بالاضافة الى استغلاله لكل ما يتصل بالنص بداية من الراوي ففي روايات عبـــــــدالله خلــــــــيفة هو العليم وكل شيء منبثق من الراوي وهي تقنية مشهورة في الرواية العربية ، حيث يتكلم الراوي عن نفسه بضمير الأنا ثم ينتقل ليتحدث عن غيره فيما يشبه فصل الضمائر بين الأنا والهو لينتقل بين هذه الأساليب انتقالات غير مرئية وغير مفصول بينها ، وعليه يحتاج القارئ الى وعي شديد وهو يتنقل بين اللوحات التي يرسمها عبـــــــدالله خلــــــــيفة. وأضاف الدكتور محمد زيدان أن الملمح السردي الثاني الذي يعتمد عليه الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في تشكيل النص هو اعتماده على لغة مجازية رامزة شديدة التبييض شديدة المجازية لدرجة أنه في بعض الأحيان المجازات الصغيرة واللغة الشعرية داخل النص تلفت الى نفسها أكثر مما تلفت الى ما فيها من أحداق وأفعال ، ومن وجهة نظره أنه لا أحداث كبيرة في النص السردي لدى عبدالله خليفة ، وإنما هي أفعال ترتبط بزمان ومكان معينين. وأوضح أن الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة يعتمد اعتمادا كبيرا ولافتا على ما يسمى في النقد بتيار الوعي ، لذلك نرى عنده المنولوجات طويلة جدا ، وخصوصا الخاصة كالحديث الى الذات أو الى الآخر ، حيث يعطي جمالا نفسيا للعلاقات التي ينشئها بين الشخصيات ، كروايته الماس والأبنوس التي كان يقصد شخص من افريقيا اسمه الماس والأبنوس الذي يقصد به المرأة او الرجل أو الرمز باعتبار أنه نوع من البنات له طبيعة خاصة في الشكل والتركيب والمنظر ،ثم يدلف الى النص بهذه المفارقة والعلاقة والصراع الطبقي بالمعنى الاجتماعي والذي يطرح رؤيتين في المجتمع ، الا وهو رجلا يبحث عن نفسه وسط اهله ويبحث عن نفسه داخل نفسه ، وهي الفكرة والدلالة المركزية عنده في الرواية . وأشار الدكتور محمد زيدان أن ما يميز روايات عبدالله خليفة هو عنصر الامتاع بمعنى انك تستطيع ان تستمع باللغة التي يستخدمها استخداما لافتا للنظر مع كل عنصر من عناصر بناء الرواية ، والشخصيات كلها ذات علاقات متشابكة والفضاء الذي يستخدمه هو الفضاء النفسي اولا ، ثم يخرج منه الى الفضاء الواقعي الذي يتصل عنده بتأسيس الشخصيات وكل شخصية في النص تقدم منظورا حكائيا مختلفا ، ومن خلال روايات عبـــــــدالله خلــــــــيفة تستطيع ان تقدم عدة منظورات حكائية وكل منظور منها سوف تجد فيه اللغة والرؤى البلاغية والسياقية التي يستخدمها وهو مؤسس للنص لأن فكرة الأيدلوجية اذا ارتبطت بالحياة الواقعية تستطيع ان تخرج منها سياقا مؤسسا للحكاية.
ا.د. صباح عبدالرضا اسيود ــ جامعة البصرة / كلية التربية القرنة
الملخص:
دارت رحى النص والسرد في مجموعة (سهرة) للقاص البحريني عبدالله خليفة دورات عدة، ولعل أهم دوراتها ما تعلق بالمكان الممثل بالقرية والبحر والسجن بصفة خاصة، مما كان له تأثير كبير فى مفاصل كثير من القصص، بوصفها أمكنة متكررة وذات دلالة مواربة في المجموعة القصصية (سهرة) برمتها. وقد كانت انطلاقة القاص من هذه الأمكنة انطلاقة ذاتية، بمعنى أنه عبر عن موقع لهوه فى القرية التي عاش فيها أيام صباه في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ومن ثم استطاع وبتمكن فني من التعبير عنها في فنه القصصي، وبذلك فإنه يتشارك مع الادباء الذين تحكي قصصهم ورواياتهم حياة كاتبيها أو تنهل من معينها. فبعد أن عاش في القرية وشاهد حياة البحر ودخل السجن مدة طويلة أبرت على الست سنوات ومن ثم عاد إليه في أوقات لاحقة، وهو ما كان مدعاة لان يتكرر وصفه الأمكنة بعينها في عدد من القصص والحكايات التي ضمتها هذه المجموعة القصصية، علاوة على انسحاب تلك التجربة إلى الهم السياسي الذي حاول تجسيده. الكلمات المفتاحية : عبدالله خليفة، المكان، سهرة، القرية، البحر، السجن. المقدمة : حققت القصة القصيرة حضورا لافتاً للانتباه في مملكة البحرين ولا سيما في العقود الأخيرة، بعد أن كان لجيل الرواد أثر كبير في هذا النوع من السرد. بيد أن القصة والسرد عموما قد وجدا ضالتهما فيما أهداه إليهما بعض الكتاب الجادين في تناول بعض المفاصل المهمة التي لم تكن أيدي الرواد ق امتدت إليها وبصفة خاصة الأماكن التي تمت بصلة إلى حياة المؤلف أو الكاتب الذي يعير أهمية لما يعير أهمية لما تجلى في حياته، وقد انعكس أثرها في فنه كما هي متجسدة في أعمال الواقعيين عندما تناولوا ما يكتنف حياتهم وما يحيط بها في أعمالهم الأدبية. ويعد الأديب والكاتب عبدالله خليفة من أكثر الأدباء البحرينيين نشاطاً وأبرزهم موهبة ولمدة طويلة تجاوزت الخمسة عقود، في مجال القصة القصيرة والرواية والكتابات النقدية والفكرية، فقد ولد في العام ١٩٤٨، وتوفي في العام ٢٠١٤، إذ إنه كتب القصة القصيرة والرواية منذ أواخر ستينيات القرن المنصرم، بحيث تجاوزت مؤلفاته القصصية اثنا عشر مجموعة ، فضلا عن عشرات الروايات : ولهذا فإن تنوع تجربة الأديب عبدالله خليفة وغناها يحتم علينا أن نختار مجموعة قصصية واحدة ونحاول نتلمس أهم ما يميزها من تقنيات فنية لكي نتوصل من خلالها إلى ما يميز أدب هذا الأديب، لأن حيز البحث ومحدوديته لا يمكن أن يستوعب هذه التجربة الواسعة والعريضة وذات المشارب المتعددة كلها؛ ومن هنا فقد توجهنا إلى مجموعة قصصية واحدة من نتاج الأديب فحسب. لنكشف عن أهم تقنية فنية في عالمه القصصي، وهي تقنية المكان. وقد وقع اختيارنا على مجموعة (سهرة) التي صدرت في العام ١٩٩٤، وذلك لاعتبارات عدة منها أن المدة التى كتب بها الأديب هذه المجموعة القصصية هي مدة نتوسط في نتاجه الأدبي، وهي تمثل مرحلة الاختمار الأدبي بالنسبة للقاص. بعد أن خاض تجارب عدة في المجاميع القصصية وفي الروايات والكتابات النقدية والسياسية بوصفه من الشخصيات اليسارية في البحرين، وقد أودى به هذا الانتماء إلى ا أن يخوض تجربة السجن ولمدة ليست بالقصيرة إذ كان دخوله إلى السجن في عام ١٩٧٥، ولم يخرج منه إلا بعد عام ١٩٨١، ولابد لهذه التجربة القاسية أن يكون لها إفرازاتها على تكوين الأديب حياته الفنية وحتى حياته الشخصية بدليل أن مفردات السجن والاعتقال كانت تتوافد وتتوارد على مجمل كتاباته الأدبية وحتى في كتاباته السياسية والثقافية، ما يعد إضافة نوعية إلى ما يسمى أدب السجون الذي توقف عنده كثر من الباحثين وهم يستجلون الواقع السياسي والثقافي العربي وحتى العالمي من بين الكتابات الإبداعية العربية، ونحن هنا لا نقصد ارتباط الفني بالإديولوجي الذي حذرت منه الدكتورة يمنى العيد، على أساس أنه يسقط شرعية الفن«١»، وإنما نقصد أثر التجربة الحياتية في صوغ القالب الفني للأعمال الفنية. ناهديك عن أن تجربته الأولى قد وصفت من لدن كثير من الباحثين بتغليها الفكري المباشر على الجانب الفني «٢». أو أنه كان منشغلا بقضايا الانتماء أكثر من انشغاله بقضايا الفن والأدب«٣». وفضلا عن هذه التجربة القاسية في عالم السجن فقد سطع نجم الأديب عبدالله خليفة بعد معاناته في عالم الحياة اليومية والمعاشة أيضاً؛ إذ إنه من طبقة العمال التي توصف عادة بأنها الطبقة الكادحة. وقد عاش في منطقة اللينات شرق القضيبية في ساحة بيوت العمال التي بنيت بعد حريق القضيبية الشهير الذي نشب في عام ١٩٥٤«٤». ولهذا نراه منحازاً إلى المعدمين والبسطاء من الناس، علاوة على كونه ابن عامل في الأصل. ومن هنا فقد كان مهموماً بحقوق الطبقة الكادحة من العمال«٥»، كما ينقل لنا الشاعر علي الشرقاوي وهو صديق الكاتب بأن عبدالله خليفة قد سكن في بيت من الطين وما كتابته عن المعدمين إلا تعبير مباشر عن الحياة التي عاشها هو وعن أجواء الأحياء الفقيرة التي تشبه الحي الذي كبر بين ملاعبه. ناهيك عن علاقته بعالم البحر الذي كان يعيش بالقرب منه«٦». وتوظيف البحر لا يقتصر على عبدالله خليفة فحسب وإنما اتجه أدباء البحرين شعرا ونثرا إلى البحر ليس بوصفه حيزاً ومكاناً وحسب وإنما باعتباره وعاءً للعذاب الذي عاشه الإنسان البحريني في أيام الغوص والشقاء. ولهذا فإن أبطاله ينتمون إلى فئة المعدمين والعمال والبسطاء من الناس، كما أن تعبيره عن هذه الفئات من الناس يتوافق وتعبيره عن نفسه هو. ولهذا فقد غدا حديثه عن البسطاء والمعدمين لا يختلف عن حديثه عن نفسه هو. ولعلنا لا نبتعد كثيرا عن الموضوع عندما نشير إلى أن القصة القصيرة قد تقدمت زمنياً على الرواية في البحرين؛ إذ تعود بدايات القصة القصيرة إلى الثلاثينيات من القرن العشرين بينما تتأخر الرواية إلى الثمانينيات منه، وذلك يربط بطبيعة القصة القصيرة التي تناسب مع أجواء الحياة البسيطة في البحرين وفي سائر بقاع الأرض، التي أشار إليها أحد الباحثين وعدَّها مناسبة لعالم القصة القصيرة في حين توافق الرواية مع تعقد الحياة وتشابكها، ولهذا وجدنا أن القصة القصيرة قد تقدمت زمنيا في البحرين على الرواية التي يناسبها التعقيد والتشابك في الحياة والأحداث ومن هنا فقد تأخرت زمنياً«٧». وفي ضوء ذلك يمكننا القول إن الأديب عبدالله خليفة لا يختلف عن أدباء البحرين الذين تناولوا حياة القرية البسيطة مثلما تنالوا حياة البحر. وقد كان لهاتين المفردتين آثارهما المباشرة في نتاجه كله وليس في قصص مجموعة، «سهرة» وحسب، ولكن آثارهما انعكست بشكل لافت للانتباه. وكما سنتناول ذلك من خلال تناول أهم التقنيات القصصية التي تتوزع على القرية والبحر والسجن بوصفها أمكنة متكررة في سرد عبدالله خليفة، وهذه الأكنة في المجموعة القصصية «سهرة» مترددة ومتكررة على نحو تتفوق فيه على أية أمكنة أخرى؛ بل لا يمكن أن تقاس بها تلك الأمكنة، وسوف نتناول هذه الأمكنة في مجموعة «سهرة» على النحو الآتي. ١ـ تجسيد القرية كمكان في مجموعة سهرة : يعد المكان من أهم التقنيات التي تميز النتاج السردي والأدبي عموماً ولهذا فلا مندوحة من التوجه إلبه ومحاولة بيان تجلياته في هذه المجموعة القصصية «سهرة» التي تغص في تثبيت دعائم المكان في القرية البحرينية، ولا سيما الأمكنة التي كانت مرتع صبا الأديب عبدالله خليفة نفسه، وقد انعكست آثارها في أدبه بوصفه من الأباء الذين تحكي قصصهم ومحكياتهم عن حياة كاتبها وقد وجد أحد الدارسين أن قصص هذه المجموعة «سهرة» وقصص مجموعة «دهشة الساحر» تعبر عن هموم الكاتب الفكرية والسياسية والاجتماعية وقد كتب الأديب معظم قصصهما من وهج تجربته الشخصية«٨»؛ وبما يمكن أن يشار إليه على أنه من باب تقديمه العام من خلال الخاص. إذ ينطلق المكان بكل تجلياته الممسرحة منذ السطر الأول في القصة الأولى التي ضمتها المجموعة القصصية «السفر» التي يطالعنا في مستهلها القول: «الحي القديم يتفتح بدروبه الضيقة الملتوية، كالأيام والأنام، أحجاره تآكلت وتساقطت قشرتها، وتحولت غيرانها ملاجئ للهوام، بيوت متراكبة فوق بعضها، تشاجر ضلوعها وأبوابها، قميئة، كالحشائش الفطرية الذابلة، قماماتها حدائق للذباب، ومسام دروبها تنزف هياكل وفئران وأشباحاً ومجانين وغرباء.»«٩». فمنذ الكلمة الأولى بالقصة نجد القاص حريصاً على رسم لوحة لقريته التي عاش فيها طفولته ونهل منها دقائق حياته الأولى فكشف النقاب عن عالم تلك القرية، على عادة كثير من الأدباء البحرينيين الذين يتميزون بالتعبير عن خصائص البيئة البحرينية في البحر والنخل والزرع، ثم في النفط والتحولات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية التي لازمته وغيرت من تركية المجتمع البحريني«١٠». إذ يطالعنا الحي القديم بدروبه الضيقة والملتوية وكأن القاص يرسم لوحة فوتوغرافية طالما شاهدها وعاش لحظاتها، وهكذا هي البيوت المتآكلة والمتراكمة فوق بعضها البعض، بحيث كانت تلك البيوت مرتعاً للذباب والجرذان ومن ثم الناس البسطاء، والمسحوقين، وبذلك نقول إن القاص رسم بالكلمات لوحة فنية متجسدة وقد استلها من ذاكرته الى غصت بمثل تلك البيوت المتراكمة التي تفتقر إلى أدنى مراتب الحياة الإنسانية ولا سيما في الواقع البحريني في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وهو في هذا لا يبتعد كثيراً عن التعريف الذي أوردته نجاة صادق الجشعمي عندما تصدت لتعريف القصة القصيرة بقولها «هي فن أدبي وجنس من الأجناس الأدبية، وهي تعرض مجموعة من الأحداث الواقعية في مرحلة معينة من مراحل الحياة، وعادة ما تكون هذه الأحداث قصيرة وصغيرة يدور حولها محور القصة… شرط أن يبذل الكاتب جهداً لتكون مؤثرة ومعير بطريقة وأسلوب فني واستخدام اللغة المؤثرة التي تترك أثراً في نفس القارئ ومختصرة كثيراً وتسرد أحداثاً مكثفة دون أن تؤدي إلى فشل العمل القصصي»«١١»، وذلك عين ما يمكن وصف تجربة القاص عبدالله خليفة في ضوئه إذ إنه حرص أشد الحرص على أن ينقل عصارة تجربته في هذه المجموعة القصصية ولم يقتصر عمله على قصة محددة بذاتها وإنما شمل عمله المجموعة برمتها. وعلى الرغم من توافق هذا العريف والقصة التي أشرنا إليها في فن عبدالله خليفة لكنا لا نعوِّل كثيراً على كلمة الأحداث الواقعية التي أشارت إلها الباحثة نجاة الجشعمي في تعريفها لفن القصة القصيرة، لأنه من المكن أن تكون الأحداث غير واقعية وتكون القصة القصيرة على درجة عالية من الفن والرقي ، كما هو حال الكثير من القصص العربية والعالمية، بل أن القصص الخيالية تفرق غيرها المستندة إلى الحياة المعاشة واليومية بما لا مجال لحصره وتأكيده، لكن القاص في هذه القصة قد عرض علينا حدثاً واقعياً عاشه الأديب نفسه في مرحلة من حياته وأثر في تكوينه النفسي والحياتي وظل مرافقأ له وقد عكسه لذا في فنه؛ وبما يؤكد أنصهار الحدث اليومي في الفن القصصي، وكما يبدو فإن المكان الذي انتشله الكتاب من ذاكرته هو الذي رسم الصورة وقربها من الواقع وأفاض عليها بإسلوبه أثراً جعلنا مشدودين إلى الحدث من أول وهلة، بل وبإمكانا أن نتوقع ما ستصل إليد الأحداث أو نتواصل مع خيط الأحداث الذي بدأ به الكاتب ما دام يعرض لواقع معاش في بيئة عربية جالبة لهموم الناس البسطاء والمعدمين وآمالهم. الأمر لا يقتصر على هذه القصة فحسب وإنما ينسحب إلى كثير من قصص المجموعة القصصية برمتها، في قصة «قبضة تاب» على سبيل التمثيل تطالعنا القرية نفسها التي أشرنا إليها في القصة الأولى، يقول في مستهلها أيضاً:؛ كانت زرقة السماء مشوبة بنور فضي شفاف وثمة عصافير تشاجر في دغل مهجور، كان الطريق إلى المدرسة ترابياً؛ متعرجاً، بين مستنقعات آسنة، من بقايا المطر، وأكوام أنقاض.»«١٢». فالقرية التي طالعتنا في القصة الأولى هي نفسها في هذه القصة تماماً بحيث نستطيع أن نرسم معالم القرية الواحدة من التفاصيل التى أوردها القاص في كلتا القصتين كثير .من التروي. فالطريق الترابي المفضي إلى المدرسة هو نفسه الذي طالعنا في القصة الأولى، وتعرج الطريق هو الطريق الملتوي في القصة الأولى، وهكذا ثُعؤِّض أكوام الأنقاض في هذه القصة عن قمامات المدينة المليئة بالذباب والفئران. وهذا ما يفضي إلى القول إن القرية التي انطبعت معالمها في ذهن القاص هي ذاتها وأنه يعبر عنها بتعابير تكاد تتشابه لولا بعض الفقرات التي تبدو مختلفة ولكنها في الحقيقة تنسخ بعضها بعضاً وتؤول إلى منبت واحد. وهكذا يمكننا أن نرصد تشابهات القرية في كثير من مفاصل القصتين فهو يقول فى هذه القصة الثانية : «بدت بيوت القرية المتراصة كمعسكر للاجئين»«١٣». وهذا الوصف لبيوت القرية هو نفسه الذي ألفناه في بيوت قرية القصة الأولى «السفر» ولا سيما في قوله «بيوت متراكمة فوق بعضها» فإذا ما استبدلنا البيوت المتراكمة بالبيوت المتراصة لما تغير الوصف شيئاً ولبقيت القرية على حالها وهي قرية المعدمين الذين يجاهدون الحياة جهاداً، بل نجد انحسار الجميل فيها وتبدله كما وجدنا الحاج فاضل الذي التقى بالمديرة الجديدة لمدرسة القرية وعبر لها عن امتعاضه وأبناء قريته من تغير الحياة الاجتماعية وما كانت تريد بناءه يقول لها «جئت إلى هنا منذ سنوات طويلة لم أصعد إلى الهضبة، كنت اندفع فوقها وأنا شاب.. أركب الحمار.. ونجري معا.. والحصا يتطاير.. تحتنا.. لم تكن الهضبة هكذا.. صارت جرداء.. جرداء.. ليس ثمة سوى.. الأدغال المهجورة.. والقطط الشرسة.. كانت هذه الأرض.. أيتها المديرة.. خضراء.. مليئة بالأشجار.. والينابيع. الآن. كل البساتين.. التي كانت.. غدت أرضاً.. قاحلة.. لم يبق سوى بضع بساتين صارت فللاً يسكنها غرباء.. لو كنت تقفين فوق.. سطح المدرسة.. لرأيت القربة.. بيوتاً كثيرة متزاحمة»«١٤». وهذا ينم عن موقفين متناقضين إزاء القرية فبعد أن كانت القرية مرتع الفقراء ومآل المعدمين صارت ملجأ الغرباء الذين وجدوا ضالتهم في تغير البناء والعمران فيها ولكن هذا العمران جسد حياة جديدة تختلف عن الحياة الأولى التي تتميز بالصفاء، وهنا يتجسد موقف آخر غير الموقف السابق بمعنى أن النص بدأ يعكس موقفاً أيديولوجياً يتبدى من خلال السطور؛ وبما أكده بيير ماشيري عندما أشار إلى مسألة ارتباط العمل الأدبي بالأيديولوجية في قوله «إن العمل الأدبي لا يرتبط بالأيديولوجية عن طريق ما يقوله، بل عبر ما لا يقوله فنحن عندما لا نشعر بوجود الايديولوجية نبحث عنها من خلال جوانبه الصامتة الدالة التي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائبة. هذه الجوانب الصامتة هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد ليجعلها تتكلم»«١٥». وقد اقترح ماشيري برنامجاً لا ظهار المضمر الأيديولوجي في الرواية ينهض على أمرين: أولهما يتعلق بالإلمام بالسياق التاريخي الأيديولوجي الموضوع فيما بين السطور وثانيهما بناء الإشكالية التي تطرحها القصة انطلاقاً من الجوانب التي قدمتها»«١٦». ولهذا فأن أبناء القرية عندما أرادوا إحراق المدرسة وكل ما يمت بصلة للحياة الجديدة، فهذا إعلان منهم بعدم توائمهم مع عالم المدينة ورغبتهم في الحفاظ على القرية التي عاشوا فيها الشطر الأول من حياتهم وقد كانت حياتهم ذات نكهة خاصة لا مجال فيها لعالم الغربة الذي تجسد في المدينة الجديدة، بمعنى أن هذا العالم هو العالم المرادف لحياة الفطرة والنقاء. وهنا يغدو عالم المدينة موازياً لعالم السياسة المرتبط بالاستعمار الذي ربت على قلوب الفقراء والمستضعفين من الشعب ما دام هذا المستعمر يحيل حياتهم إلى شذرات فاقدة للحياة الإنسانية ويسلبهم إمكانياتهم وثروات بلدهم. وإذا كانت القرية كمكان هي المحور الأول الذي دارت، حوله رحى بعض قصص مجموعة «سهيرة» فإن البحر لا يكاد يفترق عن هذا التحديد؛ فهو يشترك مع القرية في تحديد وتشكيل «المكان البحريني». وهذا ما سنتوقف عنده في الفقرة الآتية. ٢ – البحر كمكان في مجموعة سهرة؛ لا يختلف عالم البحر عن عالم القرية بالنسبة للإنسان البحريني، فقد ارتبط البحريني بهذين العالمين ارتباطاً صميماً وصار يعبر من خلالهما عن وجهة نظره من الحياة؛ بوصفهما رمزين للإنسان البحريني الذي عاش في كنفهما هزيعا من العصور، فضلا عن كونهما يمثلان عالم البراءة والطهر الأول، وقد أشار الدكتور علوي الهاشمي في مجمل كتاباته النقدية إلى هذا المنحى والاتجاه في الأدب البحريني «١٧». لأنهما مثَّلا حقبة الحياة الأولى مثلما عبَّرا عن عالم الحياة البسيطة الأولى. وقد ألفينا، القاص عبدالله خليفة يعود إليهما في مجموعة سهرة وفي جل كتاباته الإبداعية. ولهذا نستطيع أن نصف منجزه بأنه المكافئ والموازن للقرية والبحر على حد سواء. وهو في هذا يتمرد على المجتمع البحريني الذي ينقسم أبناؤه بحسب الحياة التي عاشوها، بحيث وجدنا المجتمع ينقسم على أساس القرية أو البحر، فبعضهم يعيش حياة القرية وبعضهم يتخصص في حياة البحر بل ألفينا التقسيم يمتد حتى إلى التسمية فيتقاسمون التسمية بين البحرينيين والبحرانيين على أساس أن كل تسمية تتصرف إلى تجمع بعينه أو إلى طائفة بعينها أو مذهب بعينه«١٨». وقد أشرنا سابقاً إلى أن الأديب عبدالله خليفة قد عاش في جنيهما حياته الأولى وقد شكلا له إرثاً حقيقياً؛ بحيث صار يعود إليهما كلما سنحت له الفرصة أو الموقف الفني. وهذا ما ينجلي في جمعه بينهما في قصة الطوفان ـ على سبيل التمثل ـ التي يقول فيها:« كل هذه الجزر البازغة في الماء ربيتها كأولادك، وهذه الطرق الطالعة كالوديان الخضراء نادمتها ولم تسكرك…»«١٩». فهو يجمع بين جزر البحرين الممثلة بالماء وبين أرضها في معترك واحد ينم عن حقيقة واحدة تؤول إلى ولاء تام للأرض البحرينية بعيداً عن أجواء الطائفية وما يلحق بها من مسميات وحلقات أضحت منكشفة، وسبيلا للتفرقة بدلا عن الاتحاد. ولعل قصة «الأضواء» من أهم قصص مجموعة «سهرة» إشارةً إلى البحر والاستناد إليه سواء أكانت بعدد مرات ذكرها لمفردة البحر أم ببناء القصة في ضوء اهتمامها بالبحر، وهي في الأحوال كلها تفصح عن نظرة جديدة للبحر بوصفه الملاذ الآمن لمن يرغب بالعيش في الحياة الجديدة التي تقوم على الثراء؛ ما دام البحر مرتبطاً بالنفط وتصديره إلى العالم الصناعي الذي يجلب الأموال والثراء، وهذه اللمسة الجديدة التي لم نكن نتوخاها في القصص القديمة التي كانت توجه لتصف البحر وأهواله وما يتعرض فيه الغواصون إلى المهالك بحثاً عن لقمة العيش في حين ارتبط البحر في هذه القصة وفي كثير غيرها بالنفط وبالبحث عن الثراء والحياة الجديدة المصاحبة له بعد أن انحسرت الهموم التي صاحبت البحر هزيعاً من العصور، وكما صورها عبدالله خليفة نفسه في رواية «اللآلئ» سنة ١٩٨٢، التي تعرض فيها بطل الرواية الغواص «مطر» إلى الموت بعد أن أجبره النوخذا «الربان صاحب السفينة» على النزول إلى البحر والغوص للبحث عن اللؤلؤ هو مصاب بمرض خطير في أذنه مما عرضه بالنهاية إلى الموت«٢٠». وهذه القصة «الأضواء» تبدأ برسم ملامح الواقع البحريني المحلي الذي يتجلى في الرطوبة المتأتية من امتزاج حرارة الجو بالمياه الحارة بحيث غدت الصورة وكأنها تجمع بين بحرين محترقين؛ يقول:« وبدا كأن بحراً ثانياً؛ محترقاً يطفو فوق المياه المشتعلة»،«٢١». ومن ثم ننتقل عبر محطة شخصين قد هجرا قريتهما وسارا إلى المدينة بعد أن دفعا، مبلغاً كبيراً من المال حتى يصلا إلى الميناء، فوجدا الكثير من معارفهما وهم يختبئون في قعر السفن مع الحيوانات (الغنم) في محاولة للتسلل والوصول إلى المدن، وهكذا نطالع حسن ومرتضى يجالدان فى الذهاب إلى مدن النفط، حيث الثروة .المال والشراب. وقد وجدا ضالتهما في رجل قادهما إلى ربان السفينة في مقابل مبلغ مالي له ولربان السفينة فنجحا في أن يمتطيا السفينة وقد خُصِّصَ لهما مكان صغير وظلا متلاصقين. وبحركة دراماتيكية تنقلنا القصة عبر وسيلة الاسترجاع إلى ما كان يدور بين حسن ومرتضى عندما كان حسن يحاول إقناع مرتضى بركوب مركب المغامرة «كانا متلاصقين، أيضاً؛ تحت شجرة في ذلك الحقل البعيد حسن الطويل، النحيف، هو الذي كان يجر مرتضى القصير، الهادىء، إلى المغامرة، يصيح فيه أتعجبك العيشة هنا مع الماعز والعجائز حيث لا ثلاجة ولا سينما ولا خمر! هيا أحلم بالمدن الذهبية، مدن النفط، حيث الثروة والنساء والمتع! هيا قم من رقدتك في الروثّ»،«٢٢». وهكذا عاش مرتضى على الأحلام الوردية التي رسمتها مخيلته بفعل «جعجعة حسن» فإذا هو يتصور رزم المال وقد غزت جيوبه وأحياناً يتصور نفسه «وهو يعود إلى قريته بسيارة جيب متجها إلى بستانه الذي اشتراه»،«٢٣». وظلا يحومان حول العائدين يسألائهم عن الأشياء التي حملوها معهم، ولكن أحلامهما تذهب أدراج الرياح حين يلتفت إليهما ربان السفينة قائلاك «التفت الربان إلى الشابين المحدقين في سراب المياه. وقال: «هيا انزلا! خوضا البحر، إنه ضحل هنا، وتمنياتي لكما بالتوفيق»،«٢٤». وهنا نعود إلى صورة البحر المألوفة والمربطة بالخوف الجاثم على الصدور، بعد أن عدنا إلى عالم الواقع، فهنك خوف من الدوريات التي تصطاد المغامرين وعلى الربان أن ينزلهما في أقرب نقطة قريبة من الشاطئ، وطلب منهما المضي إلى الجزيرة في الليل «في الليل أمضيا نحو الأضواء، سترونها خافتة لكن لا تشعرا بالخوف، المياه ستكون ضحلة والجزر سيتسع، سيرا بهدوء وحذر، ستصلان المدينة، وستنعمان بالعمل والثروة»،«٢٥». بيد أن مرتضى وحسن يستسلمان على التوالي لغفوة بين الصخور القريبة من شاطئ الجزيرة ليتفاجآن بالمد الذي حاصرهما من كل اتجاه، وفي ظل هذه المياه المتلاطمة عليهما أن ينظرا حتى اليوم التالي بعد أن حوصرت أحلامهما الوردية وتضاءل بريقها وصارا يصارعان الموج الذي بدأ يفرش سطوته على الأمكنة المتاحة بين الصخور والرمل، بحيث صار هو السيد الماء والآخران يتشبثان الأمل في النجاة وها هي أصابع المياه تلحس أقدامهما، وتحسس مذاق جسديهما، وكأن جيشاً من النمل يندفع في شرايين عود قصب»،«٢٦». وهذا ما يمهد، للنهاية المأساوية التي لقي فيها الاثنان مصرعهما غرقاً في مياه الخليج: «وهذا هو الماء يتذوق صدريهما، ويبقبق حولهما قدرا يطبخ أحياء لمائدة مجهولة، وفجأة تأوه مرتضى واختفى، صاح حسن طويلا ونادى، ولكن الماء وحده، كان يثرثر مع ذاته، ولم يكن ثمة صدى،…»،«٢٧». ونفاجأ بأن حسن في نهاية المطاف أيضاً سيسقط في وسط المياه الغامرة. هذه النهاية المأساوية ترسم خطاً تصاعدياً لأحداث القصة التي بدأت بالتفاؤل ومحاولة تغير المصير ممثلة بمجاهدة الشابين حسن ومرتضى على تغير الواقع من غير جدوى ولهذا فقد ذهبت محاولتهما أدراج الرياح، بيد أن هذه النهاية تضعنا أمام تشابك لتجليات الواقع البحريني المعاصر، إذ إن موت البطلين مؤشر على انعدام الأمل في الواقع الحالي وأن ما يؤمل للبحر أن يقوم به من توفير وسائل الوفاة والسعادة قد غدا من مرادفات التعاسة في الواقع اليومي المعاش، وهذا ما قد بعد مؤشراً على انحسار الرؤية الإيجابية في الحياة السياسية التي يفقد فيها الإنسان حياته حيال أمله بالتغير. وبذلك فقد اشترك البحر والقرية في رسم لوحة فسيفسائية تدل على واقع الإنسان في البحرين ولكنها في الآن نفسه تجرد الإنسان من حقوقه التي يسعى إلى تحقيقها، ويبدو أن الصورة المأساوية التي انتهت إليها القصة الأخيرة «الأضواء» هي صورة مكررة بشكل أو آخر في قصص أخرى من المجموعة القصصية سهرة، ولكنها تدل في الأحوال كلها على العقم والموت والدمار الذي يحيط بالإنسان البحريني المعاصر. ولذلك ألفينا القاص عبدالله خليفة ينزع إلى إشراك مكون آخر غير المكونين السابقين معهما في هذه المجموعة القصصية على الأقل في محاولته تجسيد مكانة البحرين كبلد، وهو السجن كمكان مكرر في قصص المجموعة برمتها، على أساس أن ما تجسد في القرية وفي البحر يفضي إليه، وهذا ما سنتوقف عنده في الفقرة القادمة من البحث. ٣ ـ السجن كمكان فى مجموعة سهرة؛ أشرنا سابقا إلى أن شخصية الكاتب عبدالله خليفة تجمع بين المفكر اليساري«*» والأديب القصصي والروائي وقد وصفه بعضهم بأنه المناضل الذي لم يتراجع في كل الظروف عن أفكاره وعن مواقفه، وقاده التزامه بأفكاره التي دافع عنها بشجاعة إلى السجن أكثر من مرة»،«٢٨». فقد انضم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني البحرينية في ستينات القرن العشرين ونشط في صفوفها مما عرضه للاعتقال في العام ١٩٧٥، وفصل من عمله الذي مارس فيه مهنة التعليم والتدريس وليخرج من السجن في العام ١٩٨١،«٢٩». يعود إليه في أوقات متفرقة أخرى، وهذا ما منحه فرصة للتعبير عن عالم السجن كما شاهده وعاشه هو بتفاصيله اليومية والمعتادة، ولا سيما أن بعض كتاباته قد انطلقت من عالم السجن، ومن حيثياته؛ بل أن بعضها قد دونها وهو في داخل المعتقل وعلى أوراق السجائر ومن ثم وصلت إلينا بعد معاناة قاسية كما فعل ذلك الكاتب العربي صنع الله إبراهيم عندما سجل يومياته في السجن بين عامي ١٩٦٢-١٩٦٤،على ورق البفرة بخط منمنم أثناء اعتقاله ونجح في تهريبها معه عندما أفرج عنه«٣٠». تماماً كما فعل كاتبنا عبدالله خليفة الذي وفَّرت تجربة السجن له كرصة لانعكاس حقيقة المجتمع من حيث أوجه الحياة الاجتماعية المختلفة»«٣١»، كما يقول الدكتور سمير أمين وهو ينقل عن الذين كتبوا عن تجربة السجن من الكتاب العرب التي وجدها أكثر صدقاً من التجارب التي كُتبت عن عالم السجن من أناس لم يلجوا هذه التجرية ولم يفهموها حق فهمها. وقد تغلغلت تجربة السجن بين طيَّات كتابات الأديب والقاص عبدالله خليفة وتداخلت بطريقة يصعب فصلها عن أفكار قصصه ورواياته في كثير من الأحيان، ولكن المتمعن الذي ينعم النظر بين طيات هذه القصص والروايات يظفر بشذرات من تلك التجربة متغلغلة في تلك القصص، التي دفع من أجلها الكثير ولا سيما عمله وراحته، ولهذا فلا نجد غير قصة واحدة بعينها مخصصة لتجربة السجن في مجموعته «سهرة»، ولكن تجربة السجن تطل علينا في كثير من القصص بهذه المجموعة وفي غيرها من القصص والمجاميع القصصية الأخرى للقاص وهي تشير إلى واقع اجتماعي ربما عاشه القاص وربما سمع عنه من آخرين. ولعل قصته الأولى «السفر» في مجموعة سهرة من أكثر القصص وأهمها عناية بهذا الموضوع، فالراوي يؤكد في أكثر من مناسبة أن البطل يتعرض لعقوبة السجن ولمدة طويلة جداً تصل إلى خمسة عشر عاماً «خمسة عشر عاما في السجن، لم يبق شيئاً على حاله، تاهت دروب الحارات من قدميه، وسألته العصافير عن جنسيته، بين الجدران، في برميل الزيت المغلي، كان يحلم بالتوغل هنا… أيضاً كان حلمه أن يطير، كالنوارس، بعيداً بعيداً، يخترق جدران البلدان»،«٣٢». فالبطل يتعرض إلى عقوبة السجن مدة طويلة وهي تجربة مريرة كاد أن ينسى قريته التي تركها بحاراتها وأزقتها الضيقة وكان يأمل في السفر والعيش في أماكن خارج بلده وبخاصة في مدريد أو في غابات أفريقيا أو استراليا بل وحتى في ثلوج سيبيريا وباريس.. إلخ من مناطق العالم، بيد إنه ظل ملاصقاً لجدران السجن هذه المدة الطويلة وهو يعيش مع المساجين ويتعرض لمشاجراتهم ويتعرض خلالها إلى ممارسات رجال الأمن القاسية بقول «خسة عشر ألف مليون شجار وغناء نازف للحنجرة وليل صامت طويل تئن فيه الوسائد، وبصقات وصفعات شرطي صخري يفخر طوال الليل بغزواته للنساء، واليدان ذابتا من الفؤوس والصخور والقيود والأبواب الحديد، وتصير الأحلام مسامير، وتسأل النار: هل من مزيد»،«٣٣». وكما يبدو فإن البطل وشخصيات القصة جميعا من النوع الكافكاوي الذي يبقى بلا مسميات، إذ يحل الرمز محل الاسم كما فعل كافكا في بعض رواياته. فضلا عن الحدث الذي لامس حدود الرمز ونهل منه، لأن هناك ما يمكن أن نصفه بالرمز العميق الذي أفاد من تجربة السجن التي حلت على البطل وهو يحلم بحلم بعيد المنال بالخروج من المعتقل والعيش في الحي القديم الذي تبدلت معالمه والسفر إلى خارج البلد حيث تحقيق الأحلام الوردية التي كانت تراوده وهناك الواقع الذي يجهض هذه الأحلام ويحد منها. بيد أنه واجه عالما آخر عندما خرج من السجن؛ يقول: «منذ أن خرج كان الجوع الضاري نزيل جسده كل أهله ماتوا أو اغتربوا، جاء هنا وسكن غرفة رخيصة شاركته فيها فئران سمينة ومومس عجوز»،«٣٤». فرحلة العذاب مستمرة سواء أكان في السجن أم في خارجه، إذ إنه لم يستطع تحقيق ما كان يصبو إليه؛ وهو بين جدران السجن وعندما خرج ظل يدور في الحلقة ذاتها بلا هدف مع أن لديه كنزاً مدفونا بجدران بيته القديم، ولا يستطيع إخراجه، ولكننا نفاجأ بأن زوج المرأة استطاع الاستحواذ على الكنز والهرب به خارج البلد. وفي هذا دلالة عميقة على كون الزوج الغريب ممثلا للاستعمار الغربي الذي يحقق طموحاته بالإستحواذ على خيرات الآخرين ونهبها بطريقة لا تخدم أبناء البلد۔ وفي ضوء ذلك فإننا يمكن أن نطلق على هذا النمط من القصص بقصص الواقعية الرمزية الذي تضمر فيه القصة أشياء وتبوح بأخرى، وقد حاول الراوي أن يرسم معالم القضية المطروحة أمامنا من خلال امرأة استطاع هذا السجين أن يتزوجها وهي أم لطفلين، وهما ــ فيما نرى ــ شقا المجتمع البحريني السني والشيعي، وأن زوجها السابق قد ظفر بالكنز المدفون في جنبات حيطان البنت القديم وهرب إلى الخارج وحين سألها عن ذلك الأب الغائب المسافر الذي لا يرجع: «ضمته إليها وقالت (لا أعرف ماذا حدث له؟ ذات يوم رأيته يعثر على شيء في الجدار المتساقط صمت يوما كاملا، ثم زعم أنه سوف يسافر لزيارة قريب له، بعد أن أغلق الباب وراءه لم أره بعد ذلك أبداً. سمعت .مراراً عنه. قيل إنه مرة في الشرق ومرة في الغرب. لا أدري ماذا جرى له… لماذا تسأل؟)»،«٣٥». وعند ذلك نكون إزاء تجربة جديدة لم نستطع أن نكتشفها منذ الوهلة الأولى؛ إذ غدت الأحداث تنجر وراء هم سياسي حاول القاص أن يخفيه عن الأنظار، لأن هناك معادلة يشترك فيها السجين الحالم والمرأة المتزوجة التي يهرب نزوجها والتي نتزوج من السجين وولديها والمرأة المومس وكلها تقضي إلى هم سياسي يحيط بالبلد. وعندها نستطيع أن نلم شعث القضية من خلالها بكون البلد يتعرض إلى دسائس المتسلطين والمستعمرين الذين يسرقون قوت الإنسان وكنوزه المخفية والظاهرة ومن ثم يتركون الإنسان العادي يعاني الويلات. وإذا كانت القصة الأولى في هذه المجموعة تقوم بكاملها على تجربة السجن فإن هناك من قصص هذه المجموعة من أشارت إلى تعرض بعض الأشخاص إلى تجربة السجن أيضاً، وذلك ما ألفناه في القصة الثانية وهي قصة «سهرة» التي أخذت المجموعة القصصية تسميتها منها، وفي ذلك دلالة على أهميتها بين قصص المجموعة. إذ نجد أن البطل يدخل السجن أيضا لسبب بسيط، وهو أنه لا يمتلك ثمن ما احتساه في البار ولكنه ينقل تفاصيل دقيقة عن عالم السجن يقول: «أفضل مكان يقضيه العاطل زنزانة صغيرة محترمة تتحقق فيها الشروط التالية: الأكل المنتظم، الأصدقاء المرحون، الشاي، السجائر، قطعة صغيرة جداً من الشمس»،«٣٦». فهو يضع أمامنا التفاصيل الدقيقة للعش في دهاليز السجن وهي لا تفتح إلا لمن عاش التجربة وعانى منها معاناة حقيقية. إن توجه هذه القصة لا يختلف عن توجه القصة السابقة لولا أنه يقوم على أربعة مفاصل ــ كما يلوح لنا ــ هي البطل وصديقه الشاعر الممثل لتوجهات المناضلين والمرأة العجوز الممثلة للبلد وزوج العجوز المثل للاستعمار الأمريكي، والبطل يصل إلى نتيجة مهمة وهي الموت منتحراً بعد أن بلغه العجز التام عن المواجهة، وبهذا تغدو هذه التجرية التي لمسنا بعض تجلياتها المحلية واليومية ممثلة للهم السياسي الذي يعبر عنه الأديب بشتى الصور والأساليب. كما يغدو السرد في هذه القصة ممثلا لمحور مركزي من محاور الجدل الثقافي وأداة للكشف عن ما هو مغيب ومسكوت عنه في حياتنا وثقافتنا«٣٧». كما يقول الناقد فاضل ثامر وهو بصدد كشفه عن الأساليب والصور المسكوت عنها في السرد العربي وقد وجد منذ البداية أن «الكتابة القصصية هي مثل جبل الثلج لا يظهر منه إلا جزة بسيط، أما الجزء الأعظم فيظل غير ظاهر، مغموراً في الماء، فإن الجزء الغاطس أو المغيب في الخطاب الروائي يمثل نصاً غائباً أو موازياً للنص الظاهر لا يقل أهمية وتأثيراً عن النص المكتوب »،«٣٨». وذلك ما كشف عنه تودوروف منذ وقت مبكر عندما أشار إلى «أن ثمة عناصر غائبة عن النص وهي على قدر كبير من الحضور في الذاكرة الجماعية لقراء عصر معين لدرجة أننا نجد أنفسنا عملياً بإزاء علاقات حضورية»،«٣٩». وهذا ما يمكن إثباته في سرد عبدالله خليفة ولا سيما في قصة «سهرة» على نحو خاص؛ التي يغدو المغيب فيها أكثر تأثيراً من الظاهر ولذلك فكلام الناقدين تودوروف وفاضل ثامر ينطبق عليها تماماً. ومن هنا فإن هذه القصة تمثل عينة من عينات السرد البحريني المعاصر المرتبط بالقضية السياسية، بصفة خاصة والمميز من بين السرود الخليجية التي تهتم بالجانب السياسي وتتوقف عليه، على اعتبار أن السرد البحريني أكثر السرود الخليجية اهتماما بالنزعة السياسية بمحاولته تجسيد هذه النزعة بقالب فني بعيد كل البعد عن العرض الفج، ولذلك فهذا السرد لا يكشف عن نفسه إلا بعد تمحص وتفكر غائصين في تلابيب العمل الفني. الخاتمة ونتائج البحث : يمكن إجمال أهم النتائج التي توصلنا إليها في أثناء البحث بالنقاط الآتية: ١ ــ ارتبطت الأمكنة المذكورة بقصص مجموعة «سهرة» بمكان ولادة القاص ومرتع صباه، وقد انطلق تعبير القاص عن الأمكنة المتعددة في قصصه من مكان واقعي عاشه الأديب ومن ثم عبر عنه في قصصه. ٢ ــ رسم القاص ﻋﺒدالله خليفة لوحة لقريته، لتي عاش فيها، طفولته في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ٣ ــ عبر القاص عن توجهات الطبقة العاملة والكادحة في البحرين، ولا سيما طبقة العمال والكسبة وطبقة الكادحين العاملين في البحر. ٤ ــ تمكن القاص من التعبير عن البحر بوصفه مرتبطاً النفط بعد أن كان مرتبطاً بالغواصين ومنقذاً لهم من الجوع فحسب. وتلك نظرة جديدة اختلفت عن نظرة الكتاب البحرينيين الذين كانوا ينطلقون في وصفهم للبحر من شدة بأسه ووطأته على الغواصين الذين كانوا يتعرضون للويلات والمصائب من جراء عملهم فيه لكسب قوت يومهم، في حين جاء التعبير عند القاص عبدالله خليفة ليكشف عن عالم النفط والبترول. ٥ ــ انطلق الكاتب من نظرة كافكاوية في وصفه لكثير من شخصياته التي تعرضت لنكبة السجن؛ فلم يذكر أسماءها وتحدد بصفاتها فحسب. ٦ ــ عبر الكاتب عن التجربة التي عاشها وخاضها في السجن بالفن القصصي فنقل لنا تفاصيل دقيقة عن هذا العالم الذي يفقد فيه الإنسان صفاته وسماته ويتحول لكائن يجالد لأن يعيش. ٧ ــ استغل لكاتب ما دار في واقعه المعاش أداة للتعبير عن الهم السياسي برمزية واضحة، وقد عرض عن طريق ذلك لأهم ما عانت منه بلاده في العصر الحديث الممثل بتسلط المستعمر من جانب وانشقاق أهل البلد بين طائفتين متناحرتين من جانب آخر.
ـــــــــــــــــــــــــ الهوامش: ١ـ تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي: ٢٥۲. ٢- كلمات من جزر اللؤلؤ ـ دراسة في أدب البحرين الحديث – أحمد محمد خليفة: ٦٣. ٣ – ينظر القصة القصير في الخليج العربي الكويت والبحرين، د إبراهيم غلوم :٦١٠. ٤ – رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة: جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤. ٥ – رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة: جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤. ٦ – رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة: جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤. ٧- ينظر كلمات من جزر اللؤلؤ ح دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خليفة؛ ١١. -٨ عبدالله خليفة؛الكتابة سجل للاعتراف: فيصل عبدالحسن، مجلة نزوى على الموقع الالكتروني؛ com nizwa. ۹ – سهرة عبدالله خليفة: ٥. ١٠ – كلمات من جزر اللؤلؤ دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خليفة؛ ٦. ١١ – تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة ١٧ – ١٨. ١٢ – سهرة عبدالله خليفة: ٢١. ١٣- سهرة عبدالله خليفة:٢١. ١٤- سهرة عبدالله خليفة: ٢٣ -٢٤. ١٥ – الأيديولوجية في الرواية؛ عبد الجليل الأزدي ، م؛ علامات ع(٧) ١٩٧٧: ١٠٣ -١٠٤. ١٦ – ينظر المرجع السابق؛ ١.٤-١.٥. ١٧ – ينظر ما قالته النخلة للبحر . ٨ا – ينظر ما قالته النخلة للبحر . ١٩- سهرة عبدالله خليفة: ٣٣. ٢٠- كلمات من جزر اللؤلؤ دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خليفة؛ ١١٥. ٢١- سهرة عبدالله خليفة: ٤١. ٢٢- سهرة عبدالله خليفة:٤٤. ٢٣ – سهرة عبدالله خليفة:٤٤. ٢٤ – سهرة عبدالله خليفة:٤٤. ٢٥- سهرة عبدالله خليفة:٤٣. ٢٦ – سهرة عبدالله خليفة:٤٥. ٢٧- سهرة عبدالله خليفة:٤٥. ٢٨- القائد والمناضل عداش خليفة مفكراً وأديباً وروائياً بحرائيا isalbunasablog.wordpress.com
يشترك كثير من أدباء البحرين ومثتقفيها بهذا الفكر في الشعر والنثر، ولا نبتعد في هذا الصدد عندما نشير إلى الأدباء في البحرين. ٢٩- القائد والمناضل عداش خليفة مفكراً وأديباً وروائياً بحرائيا . ٣٠- أدب السجون، تحرير شعبان يوسف: ١٥. ٣١- أدب السجون، تحرير شعبان يوسف: ١٥. ٣٢- سهرة عبدالله خليفة:٥. ٣٣- سهرة عبدالله خليفة:٦. ٣٤- سهرة عبدالله خليفة:٧. ٣٥- سهرة عبدالله خليفة:٩-١٠. ٣٦- سهرة عبدالله خليفة:١١. ٣٧ -ينظر المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي:٥. ٣٨ -ينظر المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي:٩. ٣٩-الشعرية:٣٠ـ٣١. مصادر البحث ومراجعه: ١- الإيديولوجية في الرواية؛ عبد الجليل الأزدي ، مجلة علامات،ع (٧) ١٩٧٧، مكناس، المغرب، ٢- أدب السجون: تحرير، شعبان يوسف، وزارة الثقافة، الهيئة المصرية العامة للكتاب٢٠١٤. ٣- سهرة مجموعة قصص؛ عبدالله خليفة، توزيع المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء. ٤- رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة؛ جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤. ٥ – تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي؛ د، يمنى العيد، دار الفارابي، ط (١) بيروت لبنان ١٩٩٩. ٦ – تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة؛ نجاة صادق الجشعمي، نشر مركز الوطن العربي (رؤيا) والعنوان للنشر والتوزيع – الشارقة، توزيع مركز الحضارة العربية ، القاهرة ٢٠١٨. ٧ – الشعرية: تزفيطات تودوروف، ت: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، المغرب ١٩٨٧. ٨ – عبدالله خليفة؛ الكتابة سجل للاعتراف؛ فيصل عبدالحسن، مجلة نزوى على الموقع الالكتروني : ٩ القائد والمناضل عبداش خليفة مفكرأ وأديأ وروائيأ بحرئيا ess.com .wordpr isaalbufasablog ١٠ – القصة القصيرة في الخليج العربي الكويت والبحرين؛ د، إبراهيم غلوم، دار الحرية للطباعة، بغداد ،١٩٨٨. ١١ – كلمات من جزر اللؤلؤ دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خايف، الهيئة المصرية ١٩٨٨. ١٢- ما قالته النخلة للبحر، دراسة في لظواهر القية لشعر البحرين المعاصر علوي الهاشمي، دار الحرية للطباعة والنشر، بغداد ١٩٨٦. ١٣ – المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي؛ فاضل ثامر، دار المدى للنشر للثقافة والنشر – بغداد، ٢٠٠٤.
لم تفقد الحكاية بريقها الطموح المشع في أكثر من اتجاه ولاسيما قدرتها على الترميز ومرونة تشكيلها الفني وإمكانية إعادة صياغتها من أجل أن تستوعب هموم عصر آخر وأن تتكيف لسياق مختلف تماماً عن السياق الذي وردت فيه أول وهلة مما يمنحها فرص الديمومة والامتداد إلى ما لا نهاية. فالحكاية كما عبر إ. م. فورستر – دودة الزمن العارية التي يصعب علينا أن نضع لها بداية أو نهاية (1)، ومن البديهي أن يرتكز إليها القاص المعاصر بوصفها ركيزة ومهاداً ونبعاً سواء أكان هذا في مضامينها ذات الطابع الترميزي أم تشكيلها الفني وأدواتها وتقنيتها المتمثلة بالحدث الذي يبدو من أقرب الأدوات الفنية للحكاية نظراً لارتباطه بغريزة حب الاستطلاع لدينا جميعاً، فنحن لسنا أقل شوقا من شهريار كي تكمل شهرزاد أحداث حكاياتها ولكي نعرف ماذا جرى بعد ذلك(2). وقد تمتد الصلة إلى عناصر فنية أخرى كالشخصية والزمان والمكان أو تشذير الجملة السردية بـ (موتيفات) مستقاة من بنية الحكاية ولوازمها. وفي مجموعة سيد الضريح للقاص البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة نلمس نسقاً حكائياً في أكثر من قصة من قصص المجموعة، ومن ذلك قصة (محاكمة علي بابا) وإن سعت هذه القصة إلى استثمار نقيضين هما الحكاية العريقة الضاربة في أعماق الفن القصصي عامة من جانب ومن الجانب الآخر التقنية السينمائية القائمة على (دايولوج) يطغى على القصة ويقرب صياغتها من الصياغة القصصية، يرد على لسان المذيع الذي يسترسل في حديثه فلا ننكر عليه ذلك (هل تصدقون ذلك أيها السادة؟ إنني أصور لكم المشاهد لحظة بلحظة، ولكن الكاميرا لا تستطيع أن تندس وتلاحق (الجيب) المغطى بالقضبان، المندفع، والرجل الكهل يخفي ملامحه بغترته التي غدت صفراء ذابلة، أين كان منها ذلك التاج المتلألئ وحشود الحرس شاكية السلاح والسيارات السوداء الطويلة التي تمرق مروق البرق صارخة بأبواقه ودرجات مرورها النارية، قافزة ضلوع المشاة والإشارات والهدوء؟ إننا نتقدم الآن نحو المحكمة، ثمة زحام هائل…) (3) ونفاجأ بأن الرجل الكهل هو علي بابا بطل إحدى حكايات ألف ليلة وليلة وقد منحه النص بعض سمات البيئة المحلية ومن خلال غترته التي أخفى بها ملامحه، ونلمح وعي النص وحرصه على أن يوجه شخصية علي بابا وجهة أخرى مختلفة إذ يضفي عليها طابعاً سياسياً، فعلي بابا في سياق النص هو حاكم المدينة السابق، وكان قد حكمها أربعين عاماً ولا يخفى ما يعنيه العدد فهو صدى لعدد شركاء علي بابا اللصوص(علي بابا غير قادر على اختراق كتل المصورين والميكروفونات والأيدي والرؤوس… علي بابا يختلط بأرباب السوابق الذين قذفتهم شاحنة… ها نحن الآن ندخل قاعة المحكمة الكبرى ولاتزال كتل البشر تموج بنا) (4) وهنا لا يحتاج النص إلى أن يصرح بطبيعة شخصية الحاكم السابق لأن الدلالة دانية ومستقاة من طبيعة الشخصية الأصل (علي بابا) بيد أن ثمة من ينسب للحاكم السابق انه (هو الذي فتح الكنز.. هو الذي شيد ناطحات السحاب.. هو الذي أجرى الماء من الأرض اليباب، هو الذي شق النهر الأزرق ووضع الحدائق المعلقة وملأ البحر بالسمك والبراري بالغزلان… والتلفزيون بالأخبار)(5) فيبدو علي بابا بوجهين متضادين وبإهابين متباينين، أحدهما تراثي والآخر معاصر يبرر انتقاء الشخصية وعلى هذا النحو الجديد. وتأتي شهادة أحدهم – وهو من نزلاء مستشفى المجانين – مثقلة بالإدانة (هذا الرجل القابع في القفص كان بدويا وقاطع طريق ومطلوبا للعدالة… كان يقود ثلة من المجرمين احتلوا بيت المال وأخذوا الذهب وسندات التنمية ومدخرات العمال والأجيال وحلي النساء. هل يمكن أن يفتح جبل بكلمة سمسم؟ أتعرفون ماذا تعني هذه الكلمة؟ إنها صيحات المعذبين وهم يصبون الحمم في آذان رفاقي)(6) وإذا كان النص ينحاز إلى إدانة الحاكم السابق من خلال انتقاء شخصية علي بابا بوصفه معادلاً موحياً بسجيتها فإنه لم يختم القصة بقرار إدانته بل أعلنت المحكمة براءته لعدم كفاية الأدلة وعودة الشاهد الذي أدانه إلى علاجه بمستشفى الأمراض العقلية، ترميزاً لاختلاط الأوراق في هذا العصر وغياب الحقيقة تحت ركام وسائط الإعلام وأضوائها وأساليبها في الإيهام والتضليل بحيث قد تغيب الحقيقة إلى الأبد. ويمضي النص في استثمار التقنية السينمائية كي يشكل منها خاتمة غير تقليدية للنص (صخب وضجة عارمة، المذيع: بسرور ودهشة ها أنتم أيها المشاهدون الكرام ترون وتسمعون الكلمة الفصل التي… اهتزازات حادة وانقطاع البث) (7)، ويهب هذا التآلف بين النقيضين (الحكاية في مقابل التقنية السينمائية) وفي غضون النص طرافة فضلا عن أنه يضفي عليه بعدا مكانيا وزمانيا مطلقين ومن خلال حاكم ما ومدينة ما كانت أرض الحدث ومكان وقوعه. وتنفتح قصة وراء الجبال على آفاق مختلفة مرتكزة إلى أرض مكانية أخرى مختلفة ترد عبر استهلال القصة (القرية بيوت صغيرة كالحة تحت الجبال الشاهقة… معبر وحيد أخير للحياة في قبر الأحجار)(8)، ولكن لا مناص من البحث عن وسيلة للنجاة يسعى إليها يحيى بطل القصة (ليلاً ونهاراً يعمل في هذه الآلة الغريبة وسط عريشه المفتوح للعيون الشكاكة والأيدي العابثة)(9). ولكي يضفي النص مصداقية على هذه الآلة التي يبدو أنها طائرة يتطلع يحيى أن ينفذ من خلالها إلى أجواء جديدة وآفاق مختلفة عبر جبال الحصار الشاهقة، إذاً كيف جمع يحيى مادة صنعها؟ لقد (تشكلت من بقايا المحاريث والصفائح، تضج في الليل والنهار، تقذف الهواء الساخن، وتدير المراوح القوية)(10). ولأن هذا الشأن الجديد غريب في تلك القرية النائية المنعزلة المنطوية على جهلها فإن أهل القرية (يثرثرون في مجالسهم، يغضبون، يأتون إليه بفؤوسهم: ماذا تريد أن تفعل.. لماذا تكلم الجن؟ – إنني أصنع شيئاً لعبور هذه الجبال.. أتعجبكم هذه العيشة الرهيبة كالضفادع والهوام؟ هناك وراء الجبال الأرض الخضراء والمدن والسعادة)(11) حيث يكمن خلف منعطفات القرية ودروبها أعداء الجديد والخائفون من أي تغيير. وحين يصرخ يحيى بطل القصة (ثمة طوفان قادم، ثمة جليد عارم جبار سيتدفق ستكتسح الصخور المنازل والزرع، هلموا إلي)(12) فإن شخصية نوح عليه السلام وعناد قومه الجاهلين يردان إلى الأذهان، ويتوضح هذا التوظيف الواعي لحدث الطوفان عبر هذه الدمدمة الرهيبة التي(تكتسح كل شيء… تنغلق الكهوف على السحرة في الجبال ويركض الناس للشرائط المعلقة على القبور)(13) وتتسلل الإضافة العصرية إلى بنية الحكاية الأصل حين تنجح آلة يحيى وهي قسيم لفلك نوح عليه السلام في أن تنقذ الحياة متمثلة بشابين اثنين فقط هما نورة وسامي (لم يكن سوى هذين الزوجين معه ولكنهما كافيان لبدء حياة جديدة)(14). وهنا يومض أكثر من إيحاء، فلعل آلة يحيى هذه هي التقنية الحديثة التي لا مناص من إتقانها كي تعبر بنا إلى آفاق جديدة، لأن الاقتصار على ما لدينا قد يعرضنا للانقراض تماما كما انقرض سكان تلك القرية الرامزة التي غمر أهلها الطوفان وإلى الأبد، ولاسيما ان هذا الطوفان كان جليدا عارما جبارا على حد وصف النص مما يعطيه هوية شمالية وملامح أوروبية. وربما يئس النص من إمكانية صلاح القرية الرامزة وأهلها ورأى أن يعيد صياغة الحياة بحيث تكون أقل بؤسا وأكثر إشراقا. وتتخذ قصة الرؤيا هيئة حكاية متخيلة تصوغها مخيلة النص وهي تستوحي الحكاية على لسان الحيوان مع أن الكلب عنتر – وهو بطل القصة وراويها بضمير المتكلم – كان بصدد إلقاء محاضرة في إحدى الجامعات العتيدة – كما عبر النص – ولذلك فإنه يبدأ بأن يعرف نفسه منذ استهلال القصة (أنا الكلب عنتر كما أسماني صاحبي ومكتشفي الأول عطية المجنون، أتقدم بمحاضرة في هذه الجامعة العتيدة متشرفا بالتحدث أمام نخبة من المفكرين والباحثين متمنيا أن تكون مداخلتي المتواضعة فرصة لإثراء الفكر في هذا البلد المعطاء)(15) إذاً تعتمد القصة على هذا الكائن المتخيل عنتر الذي يجمع وبقدرة غرائبية بين الملامح البشرية وسمات الكلب المعهودة، فهو يحاضر ويكتب مما يشي بأنه يمتلك ثقافة واسعة ولكنه في الوقت نفسه يستعيد أجواء النباح حين يشده عطية المجنون صاحبه ومنقذه من المزابل كما عبر عنتر ذاته (ويشدني الحبل بقوة من عنقي فتختفي كلماتي ويتفجر نباحي)(16)، ولا نستغرب حين يرى عنتر قرص القمر المتألق ليلا (يشبه عظمة كبيرة في السماء تسيح منها خيوط الدهن واللحم)(17)، ومن الطبيعي أن يعبر عنتر عن معاناته بقوله (كنت أنبح طوال الليل أرسل صرخاتي إلى المارة وإلى أصوات المذيعين… أنا هيكل عظمي مرهق يترنح وراء شبح رجل)(18) مما يفضح جانبا من مقاصد النص فعنتر المثقف الذي يصوغ نشرات الأخبار ويزود الصحف والمجلات والكتب والميكروفونات بالمادة المطلوبة يسعى النص إلى تأصيل شخصيته عبر منطقه وعالمه وأجوائه وأسلوب تفكيره المفترض (هيا هيا يجب أن أغير نفسي، كنت أقول لذاتي هذا، بل كنت أعضها كما لو كانت عظمة، ولا أطعم إلا خلها)(19). وأما الرؤيا التي ترد من خلال وعي عنتر فإنها قريبة من أجواء النسق الحكائي لأنها تقع بعيدا عن أحكام المنطق وقيوده، وهي تنتقل بلا عوائق من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر أو كما عبر إريش فروم (الحق أننا في الحلم صانعو عالم ليس للمكان وللزمان اللذين يضعان حدودا لكل فعاليات جسدنا سلطان فيه)(20). تنعكس الرؤيا على وعي عنتر وعبر (دايولوجه) المتواصل الذي يشكل قوام التقنية السردية في القصة (كنت أرى ذلك النور البرتقالي الواسع المدهش ذا الأصوات المنفجرة والدوي المخيف… راحت كرة النار تكبر في رؤياي كل ليلة…)(21). وتتكرر هذه الرؤيا في غضون النص بحيث تنتظم كيان القصة (يستدعونني إلى غرفهم المعتمة الباردة، أتلقى رفسات كثيرة، يقذفون بي إلى الجدران – من أنت لتفسر هذه الرؤيا؟ مجرد كلب يعيش على المزابل، فلتحترق هذه الأرض ثانية وثالثة وعاشرة…)(22). وتلمح القصة في خاتمتها محورا مهما من محاور النص الذي يتخذ من الرؤيا وسيلة تعبيرية إذ يرد على لسان عنتر (مازلت أحلم بالنار، هناك محطات كثيرة مفتوحة وتضج الحمم هناك) بمعنى ان الرؤيا المرعبة لم تنته ولن تنتهي إذ إن آفاق تحقيقها قائمة وستتكرر الحرائق مما يفتح الباب أمام أكثر من قراءة لهذا النص، فمادام عنتر (الكلب) يخضع لعطية المجنون عرابه وأبيه الروحي الذي أنقذه من عفونة المزابل فإن الذهن يتجه للمثقف عامة (الكاتب الصحفي والأستاذ الجامعي وسواهما من رموز الثقافة) حين يكون ذيلا للسلطان ووسيلة لتبرير حماقاته وأخطائه. وأما إمكانية أن تأتي الحروب على ثمار الحضارة الإنسانية بحيث تتحول المدن العظيمة إلى خرائب كما هو شأن قصة الرؤيا التي بدأت بالإشارة إلى مكان القصة (لقد تغيرت مدينتنا كثيرا… كانت ناطحات السحاب على مدى البصر… لماذا عدنا إلى الخرائب؟) فإن احتمال تحقق مثل هذه الرؤيا ممكن وقائم بل إنه هم راهن ينمو في ظلال الأخيلة المريضة والأفكار التسلطية لبعض قادة هذا العالم وتحت وطأة الأورام الخبيثة التي يطلق عليها أسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تطيح بمستقبل الإنسان في هذا العصر. وثمة تساؤل يرد على لسان عنتر وهو مما يتبادر إلى ذهن القارئ (لماذا أسماني عنترا؟ هل كان يدرك هذا الاسم؟ هل وصلت شظاياه إلى قعر عقله البعيد؟)(25) حيث يمنح النص قارئه بعض مفاتيح قراءته لأن عنترة رمز عربي مستقر في الذهن ولكن عنترة هذا العصر ما هو إلا دون كيخوته جديد يثير السخرية بل الاشمئزاز، ومعنى كهذا يحيل إلى أسلوب الروائي الايرلندي جيمس جويس حين وظف شخصية (يوليسيس) في روايته الشهيرة حيث بدا مستر بلوم بطل الرواية شخصية متضادة تماما مع يوليسيس الأصل(26) إذ يخلو بلوم من البطولة ويبدو صورة للإنسان الأوروبي المحبط بعد الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي وهو ما قصده جويس على وجه الدقة. وتنطلق قصة (سيد الضريح) من صميم المعتقد الشعبي الذي ينسجم مع منطق الحكاية وآلياتها, فهذا السيد الذي تنطوي عليه تلك القبة الذهبية الكبيرة يقرر أن يغادر ضريحه (بغتة تنشق القبة، المعدن الصلب انصهر أولا، وأخذت الأحجار التي تكلست منذ قرون تتصدع …) وتنطلق مخيلة النص كي تجوس أعماق السيد المغترب عما يراه من مظاهر الاحتفاء بضريحه وبالهيئة التي لم يتخيلها حتى انه يتساءل وبمرارة (هل تحسبونني إلها؟ أنا رجل فقير جئت من الصحراء بقبيلتي، ضاقت علينا رمالها، فانحدرنا بين الطعوس واللصوص والذئاب … ولا أعرف كيف سجنتموني بين هذه الجدران ورحتم تتضرعون إلي وكأنني ساحر أحك خرزة فتحدث الأعاجيب)(28) وتزداد حيرته حين يرى كتابا يحكي سيرته (قرأ عن شخص كأنه لا يعرفه… دهش من حشود الأكاذيب… صاح برعب – ماذا فعلوا بي)(29) ويكاد النص يفصح عن مكنونه على لسان الخطيب المتحدث عن اختفاء سيد الضريح (لماذا يتمسك بعض الناس بالحصى التي لا تنفع ولا تضر ويتبركون بأشخاص من البشر، وهاكم سيد الضريح هذا الذي زعموا أنه حي، فحدث زلزال وانكشف، فلا هو حي ولا موجود، ولا هارب مطلوب، وإنما هو وهم معدوم)(30). ويمضي النص في تقصي هذه الرغبة البعيدة في أعماق الإنسان الشعبي حين يدعي أكثر من شخص انه سيد الضريح مما يخلق فوضى بين الناس تتطلب تدخل الضابط الذي يقول (الحل المقترح الآن بعد الفوضى العارمة التي حدثت هو أن نقوم بإدخال هذا الرجل الضريح ونعيد بناءه كما كان)(31) ويختم القصة شاب عالم – كما وصفه النص – (وفي هذه الحالة علينا أن نبحث عن سيد الضريح طويلا الذي ربما ذاب بين الناس)(32) حيث يتعزز المعنى الذي دار في خلد النص وهو ان هذه الرغبة الدفينة في أعماق الإنسان الشعبي تنبع من سجية المعتقد الشعبي بعيدا عن منطق هذا العصر بل ومنطق الدين الحنيف ذاته الذي يرفض مثل هذا التقديس حتى ان سيد الضريح الذي هو بشر، وما من شك في أنه استحال إلى هيكل عظمي بال لو أتيح له في إطار النسق الحكائي الذي انتظم القصة أن يخترق ضريحه وأن يتحرر من سطوة الموت إذن لأنكر أسلوب التعامل معه والتضرع إليه ومنحه من الصفات والقدرات ما ليست فيه وليست في متناول يده حيا ناهيك أنه ميت. وتستعير قصة البركان أجواء أسطورية وأخيلة خرافية لصيقة بالنسق الحكائي الذي لا يستند إلى نص حكائي بعينه بل يصوغ حكايته الخاصة به بدءا بالمكان المتخيل المتمثل بتلك المدينة التي ينتشر فيها مسحوق بركاني ذو لون رمادي, وكان بطل القصة وساردها (بضمير الغائب) تمتلئ يده بالبثور المؤلمة وهو (لا يكاد يتنفس, يسحب الهواء من الفراغ والعدم)(33). وحين يخرج بطل القصة الذي يعمل في المؤسسة العامة للشيخ نصار فإنه يجد الشارع قد (امتلأ بحشد من المجذومين والبرص, يهتزون رقصا وغناء وبكاء، يلتقطون المسحوق البركاني ويمسحونه على وجوههم وأذرعهم وأرجلهم وملامحهم الباقية)(34) مما يكرس أجواء حكائية غرائبية تمهد لمضمون القصة الذي يقترب من موضوع قصة سيد الضريح في بعض محاوره وإن اختلف أسلوب التناول. يرد على لسان الشاب بطل القصة وفي مجلس للشرب: بركاتك يا شيخ نصار وهو مشهد ينطوي على طرافة وتضاد, فمثل جلسات الشراب نائية عن أجواء شيوخ المعتقد, ومع ذلك فإن بطل القصة (لم يرفع كأسه ويشربه, حدقوا فيه غاضبين, نهض بهدوء, قال : أود أن أعرف من هو هذا الشيخ نصار؟ ماذا فعل لكم؟ أنتم تعيشون أسوأ من الحمير, انظروا إلى المدن التي حولكم حدائق غناء وأنهار صناعية وأنتم تعيشون في زرائب.. لم يستطع أن يكمل خطبته…. جاءته لكمات رهيبة ونعال صلدة قاسية ثم حضرت المليشيا الشعبية واقتادته إلى إحدى قلاعها)(35) مما يعيد إلى الأذهان أساليب الاضطهاد والتعذيب والإقصاء بسبب المعتقد. ويصر بطل القصة على إبطال خرافة الشيخ نصار (يصرخ: الشيخ نصار كذبة كبرى في حياة هذه المدينة, يكسر أسطوانة على رأسه, اسكت/ اسكت, الرجل ضحّى بنفسه، ماذا فعلت أنت غير أن ثرت قليلا، إنه رجل مغمور طلع من قمح الأرض وأسكت الوحش في الأعماق، والآن كل الحصالات تتغذى من تمائمه)(36) فيتعرض النص لجدلية الثائر ورجل الدين من خلال انعكاس صورتيهما على الوعي الشعبي . ولكن السياسي الثائر يسعى إلى أن يبرهن على تفاهة خرافة الشيخ نصار الذي يقف عاجزا مثل سواه أمام سطوة البركان – عنوان القصة -، ويختم النص بهذا المعنى (يصعد نحو البركان، الأرض تعوي متشققة والحمم تبقبق وتغلي صاعدة نحو الفوهة الهائلة, ولم يفعل الشيخ نصار شيئا)(37)، مما يفضح هدف قصة البركان والبؤرة الأساسية التي انطوى عليها بناؤها السردي وفي سياق المعتقد الشعبي في بعض مظاهره التي مازالت نائية عن العصر وطبيعته وسياقاته. وبعد، فإن ثمة اتجاهين سادا مجموعة سيد الضريح القصصية, أحدهما واقعي مستمد من نبض الحياة الراهنة, ومن ذلك قصة (طائران على عرش النار) و(ثنائية القتل المتخفي) و(وتر في الليل المقطوع) و(أطياف ) و(الحارس), وإن تخللت نسيج هذه القصص شذرات المخيلة الخصبة للقاص عبـــــــدالله خلــــــــيفة وعبر تجربته العريضة في مجال السرد القصصي والروائي. وأما الاتجاه الآخر فهو الذي اتخذ من نسق الحكاية مهادا للصياغة القصصية وهو أيضا يتشكل في هيئتين إحداهما هيئة الحكاية المعروفة التي يستمد منها النص بعض عناصرها، وكما وضح هذا في قصة (محاكمة علي بابا) وقصة (وراء الجبال)،أو إن النص يشكل حكايته الخاصة به, وينطبق هذا على القصص, (الرؤيا) و(سيد الضريح) و(البركان) مما يفصح عن سعة عالم القاص وامكانية أن يستوحي من ذلك المعين الحكائي الضخم الذي ورثناه بحيث يعيد تشكيله بما ينسجم مع الراهن والنابض في هذا العصر, وعلى أن يتواءم مع تقنية القصة القصيرة ذات الطابع المكثف. ولا سيما ان النسق الحكائي الذي له القدرة على اجتياز زمنه والنفاذ إلى عصرنا الراهن يتسق مع طموح النص القصصي لــ عبـــــــدالله خلــــــــيفة في أن يتخطى حواجز الزمان والمكان كي ينسجم مع الهم الانساني ذي الطابع الشمولي. وقد اتسمت تقنيات قصص سيد الضريح وخطوطها السردية ذات الأثر القوي في الذاكرة بتنوع أجوائها القصصية بحيث لا نجد صدى لإحدى قصصه في الأخرى فيما عدا الهمّ السياسي الممتزج بالهم الاجتماعي والنفسي إذ يشع صدى ذلك في معظم قصصه سافرا حينا ومغلفا بتقنية النسق الحكائي حينا آخر. بقلم: الدكتور صبري مسلم تاريخ النشر : ٨ يناير ٢٠١١ اخبار الخليج 7 – سيد الضريح«قصص»، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار – وراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف– رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس». ــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: ** عبدالله خليفة،سيد الضريح, وكالة الصحافة العربية, القاهرة 2003. وكان القاص قد أصدر عدة مجاميع قصصية منها: الرمل والياسمين, يوم قائظ, سهرة, دهشة الساحر, كما أصدر أكثر من سبع روايات, وهو ما يزال يواصل تجاربه القصصية والروائية. (1): إ . م . فورستر, أركان القصة, ترجمة: كمال عياد جاد, دار الكرنك, القاهرة 1960, ص 34 .(2): نفسه, ص 36 (3) : سيد الضريح, ص 85 – .(4) : نفسه, ص 86 (5) : نفسه, ص 88.(6) : نفسه, ص 89 (7) : نفسه, ص 90.(8) : نفسه, ص 19 (9) : نفسه ‘ ص 19.(10) : نفسه, ص 20 (11) : نفسه, ص 21.(12) : نفسه, ص 22 –23 (13) : نفسه, ص 23.(14) : نفسه, ص 23 (15) : نفسه, ص 77.(16) : نفسه, ص 78 (17) : نفسه, ص 79.(18) : نفسه, ص 80 (19) : نفسه, ص 83.(20) : إريش فروم, الحكايات والأساطير والأحلام, ترجمة : صلاح حاتم دار الحوار, اللاذقية, ص 12 (21) : سيد الضريح, ص 79. (22) : نفسه, ص 83 (23) : نفسه, ص 84. (24) : نفسه, ص 77 (25) : نفسه, ص ..2 .(26) : جيمس جويس, عوليس, ترجمة : د . طه محمود طه, المركز العربي للبحث والنشر, القاهرة 1982 (27) : سيد الضريح, ص 41 – 42 (28) : نفسه ‘ ص 43 (29) : نفسه, ص 44 – 45 (30) : نفسه, ص 48 (31) : نفسه, ص 49 (32) : نفسه, ص 49 (33) : نفسه, ص 37 (34) : نفسه, ص 37 (35) : نفسه, ص 38 – 39 (36) : نفسه, ص 40 (37) : نفسه, ص 40
مجموعة «لحن الشتاء» للكاتب البحريني عبدالله خليفة محاولة قصصية تندرج في سياق الحركة الادبية المتصاعدة التي تعرفها البحرين في فترة السنوات الأخيرة حتى يومنا هذا. ولعل حركة المضمون التى ينطوى عليها، هذا الكاتب تشكل الحدث الأكثر بروزا وطغياناً فيه. فالقضية هي قضية معاناة إنسانية عميقة الجذور متشعبة ترسم صيغ الأوضاع الاجتماعية والسياسية والإنسانية والحضارية التى يعانى منها الإنسان كإنسان فى البحرين. وان هذا الامر لا يعبر عنه الأديب تعبيراً مسطحاً أو سريعاً وعابراً. إنما يشكل هاجساً أكبر يتنفس من كل كلمة وحرف وفاصلة. . انه حلم أو هذيان أو جنون ينقله الكاتب إلى اللغة التى تصرخ حيناً وتناجي حيناً آخر وترصد الحركة الوجدانية في كل الأحيان. لكن اللغة التي تحمل هذه الهواجس لا تقف على رجلين متساويتين، بمعنى أنها لغة تتراوح بين السردية المباشرة والحوارية الدائلة، الواقعية حيناً والخيالية حيناً آخر، حتى لتصل احياناً، إلى الشعر وخصوصاً في أقصوصة «لحن الشتاء» حين يتحدث عن اللحن مشيراً إلى أنه «ينبعث من جهة ما، ينطلق الى البيوت والاشجار، يهزها، يجرحها، يسيل دماءها فينطلق الحزن والأسى والعذاب في الطرقات».. أو حين يقول في الاقصوصة ذاتها «اللحن رجل مجنون.. يكلم الجدران والنوافذ».. «اللحن خناجر تنغرز في عظامك» أو حين يقول في أقصوصة السندباد «أمطرت السماء حزناً وغياباً».. حيث تتبين في هذه المعطيات الرقة والانسياب اللذين تتميز بهما في بعض الأحيان. من هنا يمكننا أن نفهم أهمية الأقصوصة في الأدب البحريني حيث تبشر الحركة الادبية هناك بنوع من المستقبل الزاهر الذي ستعرفه هذه الحركة الادبية في الفترات القريبة المقبلة. جريدة «العصر» اللبنانية 11/7/1980