كتب : الحبيب الدائم ربي

كلمة لا بد منها
بحماس نادر يحاول مثقفو دول الخليج العربي في السنوات الأخيرة التصدي لآثار الأحكام الجاهزة التي اختزلت، لاعتبارات غير موضوعية في الغالب، صور منطقتهم في أذهان الآخرين إلى مجرد خزانات ضخمة من البترول، بتأكيد حضورهم الإبداعي والثقافي الذي يعكس، من جهة، مكانتهم الاعتبارية، بما هم ضمائر يقظة لأوطانهم، ويؤكد، من جهة ثانية، عبقرية الإنسان الخليجي المتجذرة في التاريخ والحضارة .
فمع انتعاش حركية النشر والتوزيع وتوسع مجالات تداول المنتوج الثقافي، ومع ممكنات الثورة الإعلامية والتواصلية، صرنا – نحن ابناء الضفة الغربية من الوطن العربي الكبير – نتابع باهتمام، وأحياناً عن كثب، أصداء الحياة الثقافية الخليجية ونواكب أنشطتها وتحولاتها عبر قنوات عديدة، تحتل الكتابة كوسيط تقليدي، مكانة معتبرة ضمنها.
قد غدت عناوين بعض المجلات الجادة مألوفة لدينا، كــ(علامات) السعودية و(شئون أدبية) الإماراتية و(نزوى) العمانية و(البحرين الثقافية) البحرينية، عدا سيل الإصدارات الكويتية التي يرجع إليها أكثر من فضل في تشكيل حساسية ووعي أجيال من القراء المغاربة والعرب عموماً.
ويمكن القول إن فترة التسعينات قد عرفت انعطافاً في إعادة هيكلة المشهد الثقافي العربي، فبعد سنوات من الريادة والنفوذ اللذين عقدا للعواصم التقليدية (مصر، سوريا، لبنان، العراق) نظرا للتفاوت التاريخي الذي فرضته ظروف وحيثيات لا داعي للخوض فيها برزت إلى الوجود مراكز جديدة لا تقل إشعاعاً عن سواها من المراكز القديمة (…).
لهذا فإن الاهتمام بكتابات القاص البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة – في هذا الحيز – لا يحتكم غلى المصادفة أو إلى جبر الخواطر، وإنما لكون هذا المبدع – كغيره من أبناء الخليج العربي – استطاع أن يجد له قاعدة من القرائ العرب منحت نصوصه الجميلة عمقاً استراتيجياً ودينامية مطردة، بدءاً من مجموعة (لحن الشتاء) 1975، مروراً بــ(اللآلىء) 1982، و(الرمل والياسمين)1981، و(القرصان والمدينة) 1982، و(الهيرات) 1983، (ويوم قائظ) 1984، و(أغنية الماء والنار) 1989، و(الضباب) 1992، و(نشيد البحر) 1994، إلى (سهرة) 1994 و(دهشة الساحر) وغيرها من المؤلفات الضاجة بالحياة والمليئة باللمسات الجميلة والمفيدة.
وقد تعمدنا – هنا – استعراض هذه العناوين للتدليل على ما راكمته تجربة عبدالله خليفة من ثراء كمي ينضاف إلى شساعة الآفاق التخييلية التي فتحها – كما سنرى – من خلال الاستناد إلى معمارية نصية متتماسكة وصلبة.
مجموعة (سهرة) نموذجاً
تقع مجموعة(سهرة) الصادرة عن المركز الثقافي العربي سنة 1994 في 96 صفحة من القطع المتوسط، وتضم إحدى عشرة قصة، هي: السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر، وهي في جلها تحافظ على المقوم الحكائي ضمن برنامجها السردي، أي أن هذه القصص لا تراهن على الخطاب Le discours وحسب بل تراهن أيضاً على الحكاية L’histoire من غير أن يكون المتن الحكائي مجرد مادة كما كان يعتقد فيكتور شيكلوفسكي وهو يميز بين المتن الحكائي وبين الخطاب في الأعمال السردية ومن ثم فإن قصص عبدالله تدور حول قضايا وفضاءات وأزمنة وتحركها شخوص ووقائع، وأدبيتها تتحقق انطلاقاً من المعنى والمبنى معاً.
إن (الثيمة) الناظمة بين غالبية النصوص تتمثل في خيبة الأمل، فهذا مثلاً سجين لا يفارقه التفكير، وهو في الزنزانة في كنز اخفاه بالخارج، وما أن يطلق سراحه حتى يبادر إلى التودد لسيدة من المفروض أن الكنز مخبؤ في البيت الذي آل إليها، وقد أفلح فعلاً في استمالة السيدة، وفميا هو يخطط للاستيلاء على الكنز يفاجأ بالسيدة تخبره – عرضاً – بأن زوجها عثر ذات يوم على شيء في البيت ومنذ ذلك الحين رحل دون أن يعود، (قصة السفر)، وهذان شابان يحاولان الهروب، عبر وسيط، إلى بلاد النفط، لكن المهرب على غرار(أبي الخيزران) في (رجال في الشمس) لغسان كنفاني، سغرر بهما ليلاقيا حتفهما في مد البحر(قصة الأضواء) وتتخذ خيبة الأمل هذه وضعاً انقلابياً – بالمعنى الأرسطي للانقلاب كخاصية درامية – فالشاب الذي أضاع، في ظروف غامضة صديقه الشاعر، والذي أغوته حيزبون متصابية فقضى ليلة معها، سيفكر بالانتحار كخلاص للمهانة التي أحسَّ بها جراء هذا الفعل المنحط وفي آخر لحظة سيعدل عن قراره، كشأن(مم أزاد) بطل رواية (الريش) لسليم بركات الذي أجل انتحاره إلى حين البت في أمر ريشة مريبة ظهرت دونما مبرر في حقيبة ثيابه، لقد ظهر الشاعر الذي يحتاج أمر غيابه إلى مبرر توضيح!، قصة(سهرة) والبحار الذي باع سفينته ومبادئه وراء اللذة ووضع نفسه رهن إشارة قراصنة برتغاليين وزودهم بخرائط وأسرار الممرات البحرية، سيصحو ضميره بعد الذي شاهده، وهو يقودهم، من فظائع اقترفوها في حق الأهالي(قصة الطوفان)، وهكذا..
يمكننا أن نذهب في التأويل إلى دلالات افتراضية أخرى غير بعيدة، كأن نفترضَ بأن (الكنز) في قصة (السفر) هو المرأة نفسها، وأن الهروب من الوطن في قصة(الأضواء) هو هروب من الذات، الذي يعني في نهاية المطاف الهروب من الحياة نفسها وبالتالي الانتحار والموت، فقط علينا أن نحذر من إسقاط دلالات تشاؤومية على قصص عبـــــــدالله خلــــــــيفة، الذ يبدو إنه من موقعه ككاتب يحملُ وعياً ممكناً يناهضُ الوعي القائم، ومتمسك بالأمل والحياة، وأبطاله دوماً يخلقون لأنفسهم حين تضيقُ بهم السبل أسباباً للحياة ولو كانت واهية(يكفي أن يظهر الصديق الشاعر ليلغي فكرة الانتحار من جدول أعماله!).
بيد أن هناك نقطى تفصيلية لا بد من فتح قوس صغير بخصوصها، فالقصاص، أي قصاص، هو صانع حكايات(بيرسي لوبوك) وليس مبشراً ولا مصلحاً اجتماعياً إلا من باب التلازم الذي يصل الفن بمحيطه، ومع ذلك فإن الفنان عموماً ليس نجماً معلقاً في الفراغ، وإبداعه لا بد أن يحمل نفساً أطروحياً مقصوداً أو غير مقصود، فبيكاسو مثلاً في (جرنيكا) كان بشكلانيته قاسياً في (واقعيته) أكثر من الواقعيين أنفسهم، وفلوبير الذي حكوم إلى جانب(شارل بودلير) على الرغم من أنهما قدما أعمالاً(لا تقول شيئاً) وأنما( لها طريقة في القول)، لم يتحدثا عن الواقع كما فعل زولا وبلزاك وهوجو، فقط لكونهما دفعا بالمحتويات إلى مشابهة الأشكال بنحو من الأنحاء( على حد تعبير جان ريكاردو في حديثه عن الرواية الجديدة).
فـعبـــــــدالله خلــــــــيفة لا يكتب القصة كترف بلا قضية، وإنما يكتبها لأن له أكثر من قضية: فإلى جانب إنشغاله باختلالات الواقع وتدهور القيم وتناقض الكائن مع الممكن، نجده منشغلاً كذلك بالهموم الإبداعية، لهذا فكتاباته تحمل قضايا مووضعها دون إغفال قضاياها الخاصة، فبقدر ما لا تقبل مساومات في طروحاتها ومبادئها بقدر ما لا تقبل مساومات بخصوص أن تكون كتابات أدبية أو لا تكون على الأطلاق ولذا ينبغي التأكيد مرة أخرى على أن المحتوى والشكل عند عبـــــــدالله خلــــــــيفة كلاهما يكملُ الآخر وكلاهما يباطن الآخر مباطنة عضوية، فها هو السجين في قصة السفر يحلم بالكنز الذي سيخلصه من عذابه وينسيه خمس عشرة سنة من الاعتقال والحرمان، وحلمه ليس مجرد حلم تقريري وإنما جاء مصاغاً بطريقة تكشف نفسية الحالم واستيهاماته، خاصة وأنه كان يعلق كل أحلامه على تلك الحقيبة الصغيرة المملؤة بالأوراق النقدية المخبأة التي سيطير حيث(جبل من الأثداء، ومدن الهند الصاخبة، وبارات آسيا الواسعة، ويداك تلمسان غيم الأعالي، ونساء يحترقن حباً. . وأنت ترقص في كهوفٍ مضيئة، وتحرق رزنامة الأيام الحجرية، تشرب وتشرب حتى تصير نهراً للحب قطراته دواءً للسنين)، (ص6).
والعجوز في قصة (قبضة تراب) الذي اجهد نفسه لصعود الهضبة قصد تبليغ مديرة المدرسة رسالة الامتعاض من القرية التي ترفضُ تعلم بناتها ولم يكن يتكلم فقط وإنما تشخيص كلامه المتقطع على الطريقة التالية:(البارحة . . هتف الشباب . . وصرخوا . . أرادوا أن يحملوا . . النار لحرق المدرسة! . . هدأتهم . . في الليل . . لا نستطيع . . أن ننام . . موسيقى الغرباء . . تضجُ في . . المكان)، ( ص 25).
ولغة عبـــــــدالله خلــــــــيفة لا تعتمد على التشخيص وحده وإنما تدفع بالمفارقة إلى اقصاها عبر السخرية والباردويا:
(جارنا فلان اشتغل براتب كبير، وعلانة صارت سكرتيرة للوزير، وابن حمدان راعي الحمير السابق بنى لنفسه عمارة، أما أبي فمن المسجد إلى الدكان ولأن الدكان شبه فارغ فهو دائماً نائم، وبين كل غفوة وغفوة يسألني هل اشتغلت؟، (قصة سهرة ص 12).
(قالت العجوز:
- أتحب أن تأكل؟
- إنني لا أريد إلا أن آكلك أنتِ!
- وأضفت بالعربية (حتى أخلص العالم من شرك!)، ص 16).
وفوق ذلك فإن اللغة في مجموعة سهرة فضلاً عن جزالتها وصانتها تشيد شعريتها انطلاقاً من الإنزياحات التي تخلقها – إمعاناً في الغنى الدلالي – بين الدوال ومداليلها، لتغدو المجازات والاستعارات والتوريات أدوات إبلاغية يتم بواسطتها فك قسرية القصور اللغوي إزا تعقيدات المواقف (لحسن الحظ اتضح أن العجوز ذو لغة غريبة خاصة، لا تفهمها سوى قبعته الواسع. . فلماذا يغمز بجلده المتغضن الذي يشبه نسيج العنكبوت(قصة سهرة صفحة(72؟؟).
(المرأة تتعرى، ها هو الهيكل العظمي يرقص. الفضل أن تطفئ الأنوار. لا، لا أحب أن أرى عاري أمامي!، قصة سهرة ص 18.
وتتحول الاستعارات إلى نشيد في مقاطع مفعمة بالشعر (الفندق ينتعش ويرتعش، ويصيح من النوافذ ، ورغوة البيرة تغدو نافورات، واشرطة ملونة تبتهج في الهواء، وتحزم خصور النجوم في رقصات غجرية.. (قصة ليلة رأس السنة ص 48).
(لماذا هي وحيدة، كئيبة، منعزلة في ركن الساحة حيث يدور الريش والورق بفعل الريح الدائرية؟، ( قصة هذا الجسد لك)، ص 59).
والكتابة ف يمجموعة (سهرة) خارجة عن النمط فهي تارة تختار الأطناب والتمطيط لتكريس طقس أو تشخيص أثر نفسي، مثل( أيضاً كان حلمه أن يطير كالنوارس، بعيداً بعيداً، يخترق جدران البلدان، ينام ف يمدريد، ويصيد الطيور في أدغال أفريقيا، ويجري وراء الكركدن في استراليا، يرى الجليد في سيبريا.. آه كم حلم بالسفر، بالطيران، بالذوبان ف يعيون المضيفات، بزبدة البيرة في باريس، بالتماثيل المنحنية حباً واحتراماً، بمياه النيل وشقق الدفء والصحو في الفجر، بتماسيح الكونغو الكسولة بشقراوات الشمال وبحيراتهن الساخنة، قصة السفر ص 5، 6. وطوراً تنحاز المتابة إلى الومضة الخاطفة والإيماءة فتصبح شذرية مركزة تبعاً لما تشترطه الوظيفة اللغوية، قصة أنا وأمي مثلاً..
لا غرو أن كتابات عبدالله خليفة قد تحتاج إلى وقفات طويلة لاستجلاء خلفياتها ومراجعها وتوصيف آليات اشتغاهلا النصي، فهي على بساطتها الظاهرة نسيج معقد وإنسيابي أيضاً. غلا أننا أردنا في هذه الملاحظظات السريعة تسجيل أمرين هما:
أولاً: إن الأدب العربي بدأ يغتني في السنين الأخيرة بالإضافات المتميزة لمبدعي دول الخليج العربي، وثانياً: التحقق من هذه الفرضية نصياً، أي من خلال نصوص المجموعة القصصية لـعبـــــــدالله خلــــــــيفة (سهرة) حيث حاولنا تسليط أضواء خفيفة على كتابة هذا القصاص سواء من جهة اعتبارها مضموناً مرتبطاً بالحياة العربية وبالمعيش اليومي فيها أو من جهة اعتبارها تشكيلاً بنائياص تنتفي فيه البداهة ويحضر القصد الفني كخيار لا رجعة فيه.
كتب / الحبيب الدائم ربي – (المغرب)
29/11/ 1998
