د. زهور كرام*


إن ما يثير الانتباه في الممارسة الإنتاجية الروائية، ليس بعدها التراكمي الذي قد يدخل زمن الاستهلاك دون أن يحقّق تحولا يفرضه شرط تطور الجنس الروائي، بل ما يلفت النظر هو قدرتها على التطور النوعي، وامتلاكها مبادرة تخصيب جوهر الجنس الروائي انطلاقا من ذاكرة نصية سياقية.
وهذه مسألة مشروعة اعتبارا لجوهر الجنس الروائي الذي تتحقق أصالته المستمرة وتاريخيته المفتوحة، على المتغيّر من خلال منطقه الذي يقبل التعامل مع أشكال وأنواع تعبيرية رمزية سابقة أو لاحقة، وعلى قدرته التقنية والبنائية على إدخال مختلف هذا الوجود النصي واللغوي والأسلوبي والذاكرتي في منظومة إبداعية سردية تحقق للحكاية تاريخا جديدا في الحياة والقراءة. ولعله رهان ذو علاقة بإبداعية الروائي الذي ينجز هذا التواجد التداخلي بين مختلف التعبيرات والنصوص، وكذا التفاعل مع الأسئلة المستجدة في المجتمع والسياسة والاقتصاد والأخلاق، وجعلها تتحاور وتتعايش فيما بينها، دون إلحاق خدش بروائية النص جماليا ومعرفيا وسرديا.
ويمكن القول بأن قيمة التطور النوعي تتحقق من خلال قدرة التجربة الروائية على صهر مختلف هذه الإمكانيات، وتشرّبها بشكل بنيوي، لتصبح فيه مكونا بنائيا ينتج الشكل الروائي ولا يلغيه.
وعليه، يصبح التراكم قيمة نسبية أمام القيمة النوعية التي قد تكشف عنها الممارسة الروائية في مجتمع من المجتمعات الحديثة.
من أجل تقريب خصوصية الرواية البحرينية هذه، اشتغلنا على رواية «ساعة ظهور الأرواح» للمبدع «عبدالله خليفة»**.
إن الكتابة بواسطة أشكال وأنواع سردية متعددة (التراثي والسيرذاتي والقصصي ) تنتج معرفة حول الوعي المنتج للتجربة الروائية، وحول تصوره للكتابة الروائية. ويمكن اختصار تلك المعرفة في العناصر التالية:
ـــ إن الكتابة من خلال أشكال تراثية سردية، تقدم قراءة المبدع لهذا التراث، في علاقته بالمستجدات السردية الحديثة( الرواية).
ـــ استدعاء أساليب سردية قديمة، وتشغيلها داخل السرد الروائي ، يجعل منها إمكانيات متجددة للتفكير.
تنتمي رواية «ساعة ظهور الأرواح» لـ«عبدالله خليفة» إلى النوع الروائي الذي لا يهادن ما اتفق عليه في القراءة، ويعود الأمر إلى تركيبته البنائية التي تجعل النص تجربة تخييلية تعيش حالات مستمرة ومتنوعة من التطور التقني والإجرائي والأسلوبي والمعرفي، مما يجعلها منفتحة على الإيحاء في أبعاده المنتجة للتعدد والتنوع في التأويل.
نسجل في البداية صعوبة اختزال قصة رواية «ساعة ظهور الأرواح» في حكاية واحدة، باعتبارها عبارة عن محكيات تولدت عن زمن اشتغال التغريب في حارة العدامة، التي استيقظت على نشاط غريب عرفته السماء مع زوبعة الريح، فأحدث تحولات في نظام الحياة، وشكل التفكير، وفي علاقات الناس مع بعضها ومع تاريخها، وفي ظهور منطق جديد في التعاطي مع التاريخ والذات وذاكرة العدامة، مما حول حكاية (التاريخ/ الحياة) العدامة إلى محكيات أهلها الذين فاجأهم التحول حين انتقلت العدامة إلى مدينة من الإسمنت، يتحكم في تدبير شأنها عناصر غير مرئية، ترسل تعاليمها من وراء الأفق. فعبرت ردود فعلهم عن حكايات تأثّرهم بزمن التحولات. لهذا، نلتقي بمحكيات كل من الشيخ درويش ويوسف وجوهر ومريم وبشير وغيرهم.
وهذا ما جعل الوقائع في هذا النص لا تعيش الامتداد الأفقي، مما يسمح بإمكانية تأطير الحكاية الكبرى ضمن مجال معين من الأحداث. ولكن هناك اختراقات وتوليدات وتفجير محكي من آخر، ما يجعل بعض التنظيرات الروائية تتكسر أمام اشتغال السرد على الحكاية في هذا النص، مثلما نجده في تقسيم «تودوروف» للرواية باعتبارها قصة( حكاية) وخطاب. وهو تقسيم يعطي الانطباع بالحكاية الواحدة والمنسجمة، وبالتالي يدفع هذا الوعي النظري إلى إنتاج تصور معين حول الرواية باعتبارها حكاية مكتملة يتم صوغها سرديا.
يشتغل السرد في رواية «عبدالله خليفة» ضمن استراتيجية توليد المحكيات، عبر تكسير وهم الحكاية الأصلية، ويتبنى من أجل ذلك عيّنة من التدابير السردية التي تتشخّص في الإجراءات التالية:
منطق الاختراق:
ينفتح السرد على حالة عادية مألوفة في ثقافة التواصل، ثم فجأة يحدث الاختراق، ويتم الانتقال فجأة إلى حالة عصية على الإدراك، تلحق الشخصية و الحدث والسارد واللغة، وتغير ملامح العدامة ومنطق العلاقات.
الانتقال من العادي إلى الغرائبي:
“.. دهش الأولاد وهم يصطدمون بأجسام رهيفة، شفافة، كانت تدخل جيوبهم وآذانهم وأفواههم، وتثير ضجة في خلاياهم، ثم راحت هذه الأجساد الرهيفة تستوي وجوها، ملأى بعيون وابتسامات وأفواه متفجرة باللغة، وبأقنعة من ورق الزهر سرعان ما تتمزق لتتشكل.. ” ص7. “.. وأمسكت قبضتان قويتان جوهرا. كان قد استحال إلى كتلة من الطين والتراب وبدا كشبح، أو كجسم غير مرئي يناديه رفاقه ويعرفون موقعه من أصواته، وفجأة تحول إلى عمود من نار، أو شعلة ضوء طويل كمسمار راح يحفر الأرض والسماء.” ص 7ـ 8.
تشخص هذه المقاطع السردية حالة اجتاحت أهل العدامة، وهي حالة أثارت الدهشة من قبل أهلها، وشكلت لحظة ارتباك وتردد في إدراك ما يحدث لدى كل الشيخ درويش و جوهر ويوسف الذين تمظهرت فيهما الحالة الغرائبية، “أكانت الزوبعة وليدة صبوة شديدة من الأعالي لعناق أرض جافة ماكرة” ص 17. يتساءل الشيخ درويش بعدما أصيب ولده في النشاط الغريب للسماء.. وبالتالي نكون أمام ما سماه الناقد «تودوروف» بالغرائبي/ Fantastique الذي يتحدد في علاقته بالواقعي والمتخيل. وفي حالة التردد التي يعبر عنها كائن لا يملك إلا قوانين الطبيعة أمام حدث فوق طبيعي. وهو تردد في الفهم عبرت عنه أيضا اللحظة السردية التي لم تحسم فيما حدث، بأن ترجعه إلى حلم أو وهم، أو اشتغال الخيال لدى الشباب (يوسف وجوهر). ولكن السارد وهو يسرد الحالة من خلال صدى الشخصيات، فإنه يقترح احتمالات غير وثوقية في طبيعة الحالة “وبدا كشبح، أو كجسم غير مرئي ـــ تحول إلى عمود من نار، أو شعلة من ضوء”. وعملية التردد بين إمكانيتين لتفسير الحالة بين إرجاعها إلى الواقع ، أو إلحاقها بالمتخيل هي التي تخلق ما يسميه «تودوروف» بالغرائبي. وعليه، حين يتعطل التردد ويتم الحسم يتم تجاوز الغرائبي لصالح حالة أخرى قريبة منه وهي العجائبي/Le mérveilleux.
هكذا، يشتغل الغرائبي على خرق السرد الأفقي الذي تعودت عليه الذائقة الروائية، غير أنه خرق لا يتم بشكل مكشوف وصريح، كما نجد في النصوص التي تتخذ من التجريب قاعدة أساسية، وإنما يقترح بناء نص «ساعة ظهور الأرواح» شكلا مغايرا لزمن الخرق، لتحقيق التجريب وفق خصوصية نصية عبر الغرائبي والخارق والماورائي باعتبارها اشتغالات سردية تخلخل التواصل مع منطق الأشياء، وتعمق البعد التخييلي للنص، وتفتح آفاقا مفتوحة أمام توسيع دائرة التأمل في شكل الحكاية.
يمارس الغرائبي قوة التجلي على مستوى سلوك الأفراد، ويخترق المكان والزمن كما أنه يطبع الوصف بسماته، يصف السارد بوسمرة حاكي العدامة بشكل يمزج بين الواقعي والغرائبي، يقول: “هيئته العملاقة، بطوله الفارع وجسده المفتول، ورأسه التي تتوج عليها غترة ملفوفة بشكل غريب ملفت، تشاهد من أول الحشد كحمامة مقلوبة” ص21 . فالوصف هنا يخرج الشخصية من مساحتها البشرية، ويدرجها في المساحة الغرائبية، لتتحول إلى كائن تخييلي مزدوج. يتحرر من الحكاية الأولى وينخرط في تجربة مغايرة تعطيه أبعادا جديدة في تجليه، وتجعله يمدّ من عمر السرد، ويفتح أمامه أفاقاً تمكنه من توسيع الحكاية التي تتولد من رحم تطور الغرائبي. هكذا، يصير الواقع الذي عاشه يوسف مع ثورة السماء حكاية يحكيها إلى رفاقه: “في حشود الأضلاع والجدران والسبورات السوداء والطباشير وحشرجة اللغة جمع طابوراً من الصغار راح يروي لهم مغامرته في القصر المسحور” ص 13 . كما يصبح الغرائبي سلوكا ذهنيا يتحول إلى ذاكرة ومرجعية في الفهم والإدراك والتأويل. بل تصبح له سلطة تدبير شأن العدامة من خلال التأويل الجديد لمفهوم السر الذي شكل سؤال البحث لدى الشيخ درويش وأصحابه. ويصبح مرجعية في التأويل خاصة مع التحول الذي لحق مجموعة من الشخصيات، مثل مريم التي”شفيت من تيبس العظام” ص 16.
غير أن الغرائبي لا يعيش الثبات في شكل حضوره، إنه ينمو في اتجاه التحول إلى وضع آخر. يقيم علاقة جديدة ومختلفة مع الشخصيات، ويتخلص من بعده الغرائبي، وذلك بفعل نشاطه المستمر، واختراقه الحياة اليومية للشخصيات، وتحوله من موضوع إلى آلية للتفكير. يتحول في هذا الصدد إلى عجائبي، يحد من حدة التردد والاستغراب لدى الشخصية التي تعودت أن تدرك الأشياء بواسطة قوانين الطبيعة، ويجعله مقوما قابلا للتعايش معه ، نظرا لكونه قد أصبح مألوفا في نظام الحياة، وأخذ يشكل منطق المعاملات في العدامة. لذلك، لم يعد يطرح تواجده استغرابا أو دهشة.
انبثق الخارق والغرائبي في بداية النص من الواقعي- المألوف، إذ انفتح السرد على سياق اجتماعي لأهل العدامة بأمكنتها وأهلها وأطفالها، ثم فجأة يتحول الاجتماعي إلى غرائبي، مما يثير دهشة السكان نتيجة سرعة التحولات وإيقاعها وقدرتها على التأثير الملموس في المكان والزمن والعلاقات والمواقع، وفي ظهور عناصر تصبح لها قدرة تسيير بعض الشخصيات مثل جوهر الذي أصبح وسيطا بين تلك العناصر والشيخ درويش من أجل إعادة كتابة تاريخ العدامة، انسجاما مع زمن التحولات. وتعويض الورق الأصفر بالأبيض والذاكرة بالآلة، مع خلق زمن اقتصادي جديد يدفع باتجاه بيع الجسد (مريم ).
غير أن هذه الحالة وفق اشتغالها البنيوي، باعتبارها قد أصبحت مكونا سرديا، ستتطور وتصبح حالة واقعية في التخييل بموجب انغراسها في تربة العدامة، وفي تفكير أهل الحارة ، ثم لكونها أضحت سؤالا جديدا على أهل العدامة. لم تعد تثير الاستغراب والدهشة واستدعاء قوانين ما ورائية لإدراكها من قبل الشخصيات. ولهذا يحدث الانجراف وراء القرارات القادمة من وراء الأفق، والتي أصبحت تشكل الحياة في العدامة بمنطق الخريطة الجديدة، والأسئلة الجديدة.
مظاهر اختراق السارد واللغة:
بناء على منطق الاختراق الذي جعل النص يعيش حياته التخييلية مع محكيات تولدت ـ بدورها ـ عن المحكي الأساسي. وانسجاما مع المناخ العام للسياق التخييلي للنص، والذي بواسطته انتقلت الشخصيات من الحالة العادية إلى حالة غير مألوفة، شوشت على مبدأ التواصل معها، فإن هذا الجو قد أحدث انكسارات في رؤية السارد بضمير الغائب، والذي يحضر باعتباره المؤطّر الأساسي للحكاية. غير أن موقعه من الخلف باعتباره ساردا غير مشارك في الأحداث، تم اختراقه بسلطة التخييل المركب، عبر الصيغة الإجرائية للتبئير الداخلي الذي هيمن بحكم الوضع العام لشخصيات العدامة، ولتحولها من موضوعات للحكي في الحالة العادية، إلى أصوات حاكية لذواتها، من خلال تشخيصها لحياتها الداخلية. لقد أصيب ضمير السارد بالاختراق، ولغته تخللها ما تعرضت له الناقدة «دوريت كوهن» Dorrit Cohn في كتابها «الشفافية الداخلية»La transparence Intérieure تحت اسم «العدوى الأسلوبية» حيث تتشرب لغة السارد صدى لغة الشخصيات. نقرأ في المقطع التالي: “وهو يحاول أن يقبض على تلك الحبال التي صعدته إلى السماء ويمسك أصوات السعادة وجبال الذهب، وليرقد مع الجنية أو حتى مع مريم التي شفيت من تيبس العظام، ويمضي في ليل العدامة الغارق في فحم الظلام، عل حبلا آخر حقيقيا يتدلى، وروحا طيبة تأخذه إلى الحقول السرمدية للفضة، أو حتى إلى كهوف البحر الملأى باللآلئ…” ص 15-16 . لغة السارد هنا مخترقة بصدى لغة الشخصية.
لقد انتزع الحضور القوي للشخصيات سلطة الحكي من السارد، الذي انتقلت معرفته من الكلية إلى المعرفة المتساوية مع معرفة الشخصيات، لكونه أصبح صدى لدواخل الشخصيات، يحكي برصيدها النفسي ومعجمها اللغوي. وهذا انعكس على الوضع التقني لملفوظات الشخصيات والتي جاءت مجردة ـــ في أغلبها ـــ من كل تعيين تقني يعلن – بالملموس- عن انتمائها إلى الشخصية عبر مزدوجتين. وإنما ملفوظ كل متكلم يدخل في التركيبة العامة لملفوظ السارد.
إنما تبقى خصوصية كل ملفوظ من سياق التلفظ، ونبرته وثقل معجم الحياة الداخلية التي أصبحت تعيّن /تميّز ملفوظ كل شخصية على حدة.
لقد حقق هذا الوضع الملفوظي نوعا من التجاور بين الملفوظات والتي دفعت ـــ بدورها حسب طاقة القارئ في التفاعل معها ـــ بالحوار إلى أبعد منطقة ممكنة من تحققه. ونحن نلتقي في هذا المستوى التشخيصي للحياة الداخلية للشخصية بما سمته الناقدة «دوريت كوهن» بالمحكي النفسي.
فالخطاب الذهني للشخصية يحضر بقوة وفاعلية بدعم من الحالة التي أصبحت عليها الشخصيات(العالم الغرائبي)، والتي ولدت زمن الأزمة لأهل العدامة. وهو خطاب يتولى- في أغلب الأحيان- سرده السارد، وفي هذا المستوى نلتقي بتقنية المونولوج المسرود.
غير أن الواضح في هذا الخطاب هو نبرة صاحب الخطاب الذهني التي تخترق لغة السارد، ويقتحم صداها المجال المؤطّر، فتلوّن السرد بتساؤلاتها التي تحيل على زمن القلق والحيرة كما نجد مع «جوهر» في الملفوظ التالي. يقول السارد:
“يتوغل جوهر في الأزقة متوجها إلى بيت الشيخ. إن كل أجزائه أصبحت تتمرد عليه، وعيناه لا تبصران الطريق، ولا قدماه تشتهيان الحريق.
يتساءل لماذا يكون الشيخ هو الذي ينهمر عليه عطايا الرفاق، ويجثم هو في قطعة الحجر المتقلقلة بين المياه والرمال؟ ألم يبصروا كيف تعرض كوخه لأذى عصابة يوسف وتهدم فانتقل مع أسرته إلى مبنى من حصي(…)؟ كيف يريدون منه أن يقرأ وهو لا يجد زاوية في بيته، ولا حتى مصباح شوارع ليستنير بضوئه؟” ص 69.
نلاحظ في هذا المقطع السردي، شكلا من التجاور بين ملفوظ السارد الذي يقدم فيه سياق التلفظ، المتعلق بقلق جوهر إزاء تعامل العناصر الغريبة مع الشيخ درويش، وبداية تفضيله على جوهر الوسيط بينهم وبين الشيخ ، وملفوظ الشخصية / جوهر الذي يحضر عبر تساؤلات تتم من خلال السارد.
لقد انعكس هذا الوضع السردي على طبيعة اللغة في النص، و التي هيمن عليها الاقتصاد اللغوي. ولعل الافتتاح السردي للنص يعبر بقوة عن هذا التجلي ص 5. وهو اقتصاد مدعم بتكثيف دلالي يوسع مجال الإيحاء. يقول السارد: “العصا واليدان والجسم وخلايا الروح كلها تهز ذلك الطبل، الجلد والطين والهواء والماء كلها تنتشي، ويتكاثر الناس وتصغر الأرض.” ص 21 .
حتى خواتم المقاطع السردية تتميز باقتضاب لغوي، وتكثيف دلالي، وإيقاع موسيقي مع استثمار البعد الشعري في جعل خاتمة المقطع تتنفس لغة شفيفة تكسّر حدة الفجائي والغرائبي. وهذا ما جعل رواية «ساعة ظهور الأرواح» تنبني على مجموعة من المقاطع الصغيرة من حيث الفضاء النصي، مع الإشارة إلى أن كل مقطع يتميز بحسن التخلص من الموضوع وعقدة الحدث.
ونكتفي بسرد هذه العينة من الخواتم السردية، لكي نرصد بعض مظاهر البناء في هذا النص:
” ــ بعد ذلك صب عليه بئر من ماء” ص 8.
” ــ عريش ناء تحت ثقل المساء، والمياه، وأبوه وأمه يغرفان السائل ويعصران الثياب، ويحدقان فيه متعجبين من هيئته.” ص 11.
“ــ رأى وجها حفرته السنون بمناجل الأخاديد وقد أطفأت قناديله ولم تبق سوى ذبالة تهتز من ريح الشهوات، ولم تستبقانه أو تعطيانه شيئا بل دخلنا بسرعة وهن تتأوهان من الخجل”. ص 19.
“ــ أخذ حصاه وحين أراد أن يقذفها في وجه القمر، تعبت يده بغتة وسقط الحجر.” ص 24.
“ــ أصيب بخيبة، وتمخض المستنقع عن شرارة، واشتعل خيط سريع من النشوة، والحلم.” ص 40.
“ــ يتحدث في اجتماع صاخب عن جزيرته المرمية في البحر لا يعرفها أحد. يذهلون من كلماته وثوبه ولحيته.” ص 61.
كما يتحقق الاقتصاد التعبيري واللغوي بفضل بلاغة التلخيص في هذا النص، ولعل مقطع سرد تاريخ العدامة يعد من بين أهم المقاطع التي تنتج معرفة بلاغية بفضل تقنية التلخيص. ص 25.
وتأتي الجمل قصيرة ذات إيقاع موسيقي في خواتمها. ومعززة بأدوات الربط والعطف والتي تفيد الترتيب والتسلسل في الحكي، وهذا التركيب الأسلوبي يحقق لرواية «عبدالله خليفة» ما يعتبره بعض النقاد من أهم مميزات الأسلوب والتي تتمثل في الأصالة (بصمة خاصة للكاتب) والاقتضاب (فن احتواء الفكرة في أقل عدد ممكن من الكلمات) والتناغم (المعنى الموسيقي للكلمات والجمل، وفن تنظيمها وترتيبها بطراوة للأذن).
لكن في ملفوظات الشخصيات تتوارى أدوات الربط والعطف والترتيب، لأن الشخصية تسرد حياتها الداخلية، ولكونها تعيش وضعا متأزما، مما يجعلنا مباشرة أمام وعي الشخصية وهو في لحظة تشكله. ولعله وضع نفسي جعل السارد يحرص على جعل اللغة المشخصة للحالات معبرة عن الحالة المحكية. فالحكاية أو المحكيات لاتصل فقط عبر الأحداث والوقائع الغرائبية، إنما أيضا عبر الصوغ اللغوي والمفردات وشكل التعبير.
فاللغة تحضر إذن، ليس باعتبارها آلية سردية تشخيصية للحدث الروائي، إنما تصبح حالة سردية تمد الرواية بإمكانية تفجير الدلالة.
إن رواية «عبدالله خليفة» بهذا الصنيع السردي الذي يدفع الواقعي التخييلي إلى التغريب، ويحفزه من خلال مستويات متعددة من الاشتغال السردي على التجرد من الطبيعي والمادي، تقترح تصورا لعلاقة الرواية باعتبارها فعلا سرديا بالواقع باعتباره مرجعية ممكن التواصل معها بالرجوع إلى ضوابطها.
لهذا، فإن استراتيجية كل نص روائي في الكتابة ، وفي الصوغ السردي الذي يمنح للحدث روائيته، يشكل دعامة أساسية في بلورة تصورات حول مجموعة من العلاقات والمفاهيم الخاصة بالنص الروائي، وبالأدب بشكل عام .وهذا ما يجعل من كل تجربة نصية روائية، تجربة مغايرة في قراءة المفاهيم والإدراكات.
من هنا، كانت للاستراتيجيات السردية للنص الروائي أهميتها البلاغية والمعرفية في إنتاج الممكن من الاحتمالات في الإدراك.
منطق التحول:
يشكل التحول القاعدة الأساسية في نص «ساعة ظهور الأرواح». فكل شيء يغادر موقعه وزمنه وسؤاله، لكي يصير آخرا. المكان “موقع دكان الحكايات صار سوبرماركت ضخما” ص 123 ، والزمن (غرائبي/ عجائبي )، والشخصية (فقدان الذات ).ويتجلى التحول في مظهر الانشطار الذي تعيشه شخصيات العدامة، بعد دخول الغرباء، والآلة ومنطق الورق الأبيض.
يعد الشيخ درويش من أكثر الشخصيات التي تعيش التحول على امتداد الرواية فقد أصبح “باسم مختلف وبهيئة جديدة وعالم مثير” ص 75 . فهو يظهر ويختفي، ويعيش تحولات تدرجه ضمن العالم ماورائي. ثم يعود إلى الواقعي ولكن بمستويات عجائبية.
يبدأ الشيخ درويش شخصية حميمية في زمن الحالة العادية، باعتبار وضعه في نظام العدامة. فهو المرجع الذي يعود إليه أهل العدامة أملا في إيجاد حل أو شفاء، وتعود إليه النساء طلبا للإنجاب، ويتحول مع الحالة الثانية إلى شخصية غرائبية، ينتج عنها وضعا جديدا لذاته. فالشيخ درويش كان خارج السؤال مع زمن الحالة الأولى ، فأدخله السرد الغرائبي إلى قلب الإشكالية، وأصبح موضوعا لذاته (سؤال الذات)، وموضوعا للآخرين/ الغرباء (سؤال الدهشة): “ويحتضنه قومٌ غرباء يغدو صديقاً حميماً لهم في بضع ساعات، يسألون عن دفئه، وبلده، وأولاده. (…) يذهلون من كلماته وثوبه ولحيته”. ص 61.
كما أن شخصيات كانت مريضة وعليلة ومهمشة مع زمن الحكاية الأولى، أصبحت مع الحالة الجديدة ذات سلطة في تدبير الحياة الجديدة مثل مريم ومن بعدها عدنان ابن الشيخ درويش الذي سيتضح أنه سيكون من المستفيدين من زمن التحول.
يعتمد النص في تأسيس فعل التحول على عنصر التجاوز الذي تجلى في تجاوز مرجعيات ثقافية واجتماعية ودينية.
هكذا يتم تجاوز مبدأ السلطة الواحدة (السارد بضمير الغائب) باعتباره يحضر في وعي القراءة المألوفة ممتلكا للحقيقة وموجّها لها. وتجاوز فكرة مركزية الحكاية، بتوليد محكيات جديدة ساهمت في تفتيت حالة الوعي الموجهة للمركزية. إلى جانب تجاوز الشخصية المرجعية بالنسبة للجماعة. وجاء ذلك ملموسا وثقافيا وتقنيا عبر شخصية الشيخ درويش التي كانت تملك صواب الرأي وحجة الكلام ومرجع الجواب، ومصدر الأمان نظرا لكون الشيخ درويش شخصية متفق عليها في المنظومة الذهنية لأهل العدامة.
بانخراط النص في حالة غرائبية ستغادر هذه الشخصية مركزيتها وبعدها المرجعي، ليس بإرادتها ورغبة منها، إنما بدافع شروط ومنطق الحالة الجديدة . وبالتالي، إذا كان واقع الحالة العادية قد جعل من الشيخ درويش شخصية خارج السؤال، فإن الحالة الثانية أدخلته قلب السؤال. فصار يبحث عن ذاته من خلال الشك في شرعية الماضي. يقول “لا نريد أي اتصال مع هذا العالم المنطفئ، هذا العالم الذي غرق في مياه الماضي وفي مستنقعات الأشباح، نحن على موعد عظيم مع الآلة.” ص 94. ويوسف يصرح للشيخ عن فقدانه لروحه. “إني يا شيخ لا أجد روحي”. ص 76. “امتلأت يدي بالذهب، كل شيء يتحول إلى نقد، ولكن الروح ليست في الجسد، ركضت في كل أزقة الأشياء وبرك المادة فلن أعثر على نفسي.. فهل تريني روحي يا شيخ؟” ص 68 . لكن الشيخ الذي كان مرجعا لأهل العدامة، تحول نفسه إلى سؤال فلحقه زمن الضياع كما لحق أهل العدامة. بالإضافة إلى أن السؤال التاريخي الذي تبناه أهل العدامة، وتكفّل الشيخ درويش بالبحث عنه وهو المتعلق بذاكرة العدامة، وسر الخزنة قد تم تجاوزه إلى سؤال مختلف، يركز على سؤال الذات أكثر من سؤال تاريخ الجماعة، بفعل تغير أدوات التفكير( دخول الآلة والورق الأبيض)، ونظام اقتصادي يحول كل شيء إلى سلعة.
غير أن الوضع الانشطاري الذي أصبحت تعيشه ذات الشيخ نشّط الحوار الداخلي، وجعل الشيخ درويش يدخل في حوارات إما ذهنية، أو ذات طابع تأملي، أو تأتي على شكل خيالات وأحلام، يتخيل فيها الأجداد وهم يحاسبونه على خيانته وتخليه عن سؤال البحث عن الخزنة، والخضوع للغرباء الذين خلقوا منه دمية من البلاستيك. “لم ننتظر منك ذلك، أنت.. دروة سلالة النور العدامي أن تغدو هكذا، تنسل من عباءتنا وتصنع ثوبا من نايلون ومطاط، لتغدو مهرجا تبيع ألعابك الهزيلة على الأولاد المعوقين؟.” ص 102. إن مثل هذا الصحو الداخلي يعيد الشيخ درويش – بدرجات مختلفة– إلى زمن الحالة الأولى. لقد أيقن “أن ثمة مؤامرة من غابة الأشباح الغامضة لتهديم عقله.” ص 108. وهو صحو سيعرف تجلّيه لدى شخصيات أخرى اعتبرها الحكي في هذا النص فلتة الزمن. يتعلق الأمر بشخصية بشير ابن مريم وأبو سمرة الذي “يمضي بقوة في زرع كلماته في الورق والحجر”. ص .137من أجل حماية تاريخ العدامة من الضياع. يفعل ذلك بعيدا عن عيون الشيخ درويش خشية من تسرب الأمر إلى الغرباء. غير أن ارتياحا ملأه عندما عثر على أوراقه بعد اختفائها، بدون تشطيب على كلماته من طرف الشيخ.
ينتج على هذه التجاوزات تغير في وضعية القارئ الذي يعيش تحت تأثيرات التحولات البنيوية والتقنية التي يعرفها المنطق الداخلي للنص، لهذا يتحول من مستهلك إلى فاعل/متفاعل ومنتج أيضا. بل يحدث هنا – مع السماح باجتهاد في التوظيف ما سمته« دوريت كوهن» بالعدوى الأسلوبية، على مستوى التحولات التي تحدث للشخصيات والقارئ بعدوى السؤال .
يستمر التحول عبر عنصر التجاوز قاعدة تميز النص. فالنهاية قد تبدو ملتبسة بعض الشيء بالنظر إلى مسار التحولات السردية – الحكائية، غير أن الوعي بمنطق التحول يجعلها نهاية تؤكد رهان التذويت، وإدخال الذات في منطقة السؤال. تعطي النهاية المجال أكثر لدخول عنصر آخر أو ذات أخرى لتسائل ذاتها، وهي ذات القارئ التي من المحتمل أن تعيش بدورها التحول انسجاما مع أفق اشتغال النص في مرجعياته الثقافية والمعرفية.
يصبح البحث عن السر والخزنة مجرد لعبة لكي تدخل الذات في سؤال معنى وجودها. وكينونتها وهويتها وفي معنى الماضي والذاكرة.
كل شيء يعاد التساؤل حوله. الهوية، الذات، التاريخ المشترك، السر، الخزنة، التراث، الذاكرة، حتى الذات تعيش الفقدان.
إن الغرائبي والماورائي والخارق تعد أساليب بلاغية- بنائية اشتغلت في أفق تعميق الرؤية باتجاه كينونة الفرد. وذلك، من خلال خلق مسافة عن العادي والمبتذل .
إذا كان زمن الواقعي يدفع الشخصية نحو البحث عن الإرث المشترك/ التاريخ العام، فإن زمن التحولات التي تمت عبر دخول عناصر غريبة بالنسبة لأهل العدامة، سيدفع نحو التخلص من التاريخ العام أو الانشغال به سؤالا وجوديا، والتحول إلى سؤال الذات. ولذلك، يهيمن الشك والقلق والحيرة وترتفع درجة إعلان الأسئلة.
فالشخصيات النصية تصبح مأزومة، وقلقة. تعيش الانتظار، وتوجد في فضاء العتبة الذي يوازي زمن الأزمة Temps de crise حسب تعبير «ميخائيل باختين». ولهذا، وجدناها خارج الأمكنة الحميمية، بل أصبحت مرتبطة أكثر بفضاءات العتبة مثل المصعد والأبواب والأزقة والأماكن الغريبة. كما أصبحت الشخصيات تملك هويتين: عادية وغيبية/ خارقة، و تعيش صراعا بين الهويتين مما عمق حالة العتبة.
يسمح هذا الانتقال أو العبور إلى الكينونة المغايرة بالتحرر من قيود وقوانين الجماعة. فعندما ارتدى الشيخ درويش ملابس جديدة وركب سيارة بدأ يمارس سلوكات تبدو غريبة بالنسبة لسياق الكينونة الأولى.
تعد عملية التحول في الكينونة عملية استراتيجية سردية تدخل في وظائف النص.
استنتاجات أولية:
تشتغل المكونات السردية في نص «ساعة ظهور الأرواح» في أفق تحقيق هوية خاصة للنص. وهي هوية تعيش – باستمرار– تبدلات وتغيرات بحكم أن مختلف المكونات التعبيرية وكذا البنائية تنتقل إلى حالات محكية.
تستثمر الكتابة كل مكونات الوجود، من يابسة وهواء وبشر وطبيعة وروح وفكر وشهوة، لتنسج حالة من الوجود تأتي مركبة، وغنية بالتنويعات الإجرائية، ومقبلة على توليد الحكايات التي يتحول فيها المهمّش إلى مركز( مريم، عدنان…)، والمركز إلى مهمّش (الشيخ درويش، سؤال التاريخ العام…). لكن، ما يميز عملية التوليد هو انبثاق المحكيات من بعضها عبر التدرج في السرد.
في نص «عبدالله خليفة» يشتغل التخييل في منطقة تقاطع العوالم الواقعية والغرائبية، وينتج الأوضاع التالية:
1- ليس الغرائبي في النص مجرد مكوّن بنائي، وإنما هو إنتاجي يطور رؤية العالم المحكي، ويغير آليات القراءة. بل قد يدهش المؤلف نفسه حين يكتشف انفلات التخييل من سلطة السارد الذي أوكل إليه وظيفة تشخيص حكايته كما يرغب أن يراها.
كلّما توغل التخييل في الترميز والتجريد، خلق مسافات كبرى مع مرجعيات الذاكرة المألوفة وعمّق منطقة التأمل في المفاهيم والإدراكات. ولعله وضع تخييلي يمنح للنص خصوصيته في صناعة روائيته. فالرواية تتطور بتطور منطقة التخييل فيها.
2 – تعيش الرواية تصدعا على جميع مكوناتها البنائية. وهو تصدع خرق أفقية الحكاية، وجعلنا أمام نص تجريبي من حيث اشتغالاته السردية التي تنتج انزياحات عن المألوف والثابت. إنه نص يخرق منطقه بقوانين داخلية.
3- تنحو الرواية منحى التذويت، فتوظيفها للغرائبي والماورائي، والاشتغال على المحكي الذاتي من أجل تشخيص الحياة الداخلية، يدفع باتجاه جعل الذات موضوعا للإدراك والتأمل.
وإذا كان سؤال الذات قد انبثق مع التحولات التي عرفها المكان في العدامة، ولحقت الشخصيات، ومعالم المجتمع ونظام الجماعة والعلاقات، ودخول العدامة في مجال اقتصادي يدفع باتجاه السوق، فالسؤال الذي يمكن أن ننتجه من هذا التركيب هو كالتالي.
هل الوعي بالذات سؤالا وانشغالا فكريا، مرتبط بعنصر غريب هو الذي يحرر الذاكرة ويحفزها على طرح السؤال؟
هل يقظة سؤال الذات، وإدخال الماضي منطقة التأمل يحتاج إلى عنصر غريب؟.
وهل تجاوز معيقات تطوير العلاقة مع الماضي والتراث، يحتاج إلى سند خارج ذاتي؟.
هي تساؤلات استنتاجية من شكل التفاعل مع هذا النص. والرواية هنا غير معنية بالجواب بقدر ما هي معنية أكثر بتشخيص حالات الوعي لدى الجماعة والأفراد. وطريقة التعامل مع سؤال الذات.
عندما يركز مثل هذا التصور على الكتابة باعتبارها استراتيجية في تدبير شأن التخييل، فإنه يقترح وعيا جديدا للتعامل مع الذات والعالم، ليس من منطلق التركيز على الموضوعات والتيمات، إنما التركيز على تقنيات وأساليب تدبير الإدراكات.
والتخييل في مثل هذا الوضع يعيش لحظة عالية من الحرية. وحريته تؤسس وضعا سرديا يدمر ثبات المعرفة، ويفجر الحيرة والسؤال، وينمّي حس الملاحظة، ويولّد القلق سؤالا، والذات موضوعا للتأمل والانشغال الفكري.
إنها استراتيجية في الكتابة يمكن اختصارها في جملة سردية وردت في نص «ساعة ظهور الأرواح» وجعلت من النص كتابة سردية محكمة البناء، منسجمة من حيث نظامها الداخلي، ومنتجة لجمالية خاصة.
“وذهل من لمساتها التي حولت وكر الفوضى إلى مزهرية تفوح بالعطر.” ص 97.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ناقدة من المغرب
** تعقيب على بحث الدكتورة زهور كرم: (ساعة ظهور الأرواح) لكاتب هذه السطور، فهو القسم الأكبر الأغنى من البحث، وقد تغلغلت الدارسة في الرواية بشكل واسع وعميق، فجمعت بين تحليل بنية النص الداخلية الغائرة الصعبة، وبين قراءة الواقع العام، إضافة إلى رفدها بمنتجات النقد الغربي بين دقيق وبين عامٍ مجرد .
لا أستطيع إلا أن أحي الناقدة على هذا الجهد في حفر الشخوص والأحداث الغرائبية وقراءة الأسلوب بهذا التدقيق التحليلي .
وعموماً فإن قراءتها تركز على الجانب الفني التقني، أما الدلالي على مستويات الأبعاد الاجتماعية والروحية فهي تحتاج إلى جهد آخر هنا ، وكذلك إلى الربط والتعالق بين البحث التقني والدلالي.
على سبيل المثال تقول (فالنهاية تبدو ملتبسة بعض الشيء بالنظر إلى مسار التحولات السردية – الحكائية، غير أن الوعي بمنطق التحول يجعلها نهاية تؤكد رهان التذويب).
إن هذا يعيدنا إلى فهم الحكاية الروائية بمستوى الشخوص، فالشيخ درويش يصل بمنطقه الخرافي – العلمي المتناقض إلى التحلل ، فيظهر بشير ككائن مضاد على مستوى العلم وعلى مستوى الروح . وهو الآن على جهاز الكمبيوتر:
“لا يأبه ، يبحث عن كنوز العدامة الضائعة، وإشارات كثيفة تحومُ على بيت الشيخ درويش، يجد خيوطاً تقود إلى قصر الميسري وإلى الدخان والنخيل والعفاريت”.
هذا على مستوى الصراع الاجتماعي، أما على مستوى الصراع الروحي فنقرأ عن نفس الشخصية وهو على نفس الجهاز :
“وحين ظهرت أمه عارية مرة لم يأبه، وواصل البحث، وأخذ يقيسُ بدقة رأس الشيخ درويش برأس الرجل العابث في الحانة، فوجدهما يتطابقان بشكل أذهله”.
وهكذا فإن تساؤل الباحثة حول (هل يقظة الذات، وإدخال الماضي منطقة التأمل يحتاج إلى عنصرٍ غريب )، تغدو إجابته من خلال الحفر في مستوى الرواية الروحي والمستوى الاجتماعي، فالعناصر الغريبة ، والقوى المتصلة بجوهر وبدرويش، هي قوى التغيير العالمية في ذلك الحين وهي التي ترتكز على عناصر محلية، كما توضح رحلة الشيخ درويش لبلادها وإصطدامه بفكرها وحالتها.
إن هذه الملاحظات هي من أجل تدعيم رؤية الكاتبة واشتغالها الجميل على روايتنا المحلية ، متمنين لها المزيد من الخلق والإبداع النقدي البحثي الموضوعي الذي كرسته في ورقتها .
ع.خ
